دينا سليم حنحن

تداخلت الذاكرة، اختلفت الأماكن والأزمان، كلما حلّت مصيبة ما، عادت ذاكرتي البكر إلى جدتي جميلة، وأبدأ أتوق إلى حضنها الآمن من جديد، وأتمنى لو كانت معي، وما تزال على قيد الحياة، وآمل لو بقيتُ طفلة، أنعم دفء حضنها.. لو أضع رأسي المتعب على فستانها العسلي الساتان!
بريزبن، المدينة الجميلة، اخترت أن أعيش فيها وأستوطن، تنهار أمامي، يعبث نهرها المجنون بذكرياتي ويثير عواطفي، ويضعني على خلجة الماضي السحيق، في المصاعب الحياتية التي مررتُ فيها في حياتي، هربتُ إلى جدتي وانكمشتُ داخل حضنها، كنتُ شريكتها في الحياة تقريبا، وبدأتُ نهاري كل صباح مع قبلة حنونة تركتها على جبيني، تناولنا طعامنا معا، وعشتُ سنوات تلو السنوات على هزهزة الإبريق، الهزهزة الخالدة.
حكاياتي مع الإبريق كثيرة، أهزّهُ الآن لأفرغ ما فيه من مياه صافية، بعد أن هدأت الفيضانات في بريزبن، كانوا قد طلبوا من المواطنين تعبئة المياه النظيفة قبل أن تتلوث بمياه الفيضان، يا لها من مفارقة عجيبة! وعندما بدأتُ أكتب قصة جدتي في رواية (ما دوّنه الغبار) استندت إلى إبريق شبيه، اقتنيته من متجر أسترالي، وضعتهُ أمامي، وبدأتُ أسترجع الذكريات القديمة، ودوّنتُ حكاية جدتي الحزينة، وتركتها بين دفتي كتاب صدر حديثا، وكانت هذه البداية:
“ هززتُ إبريق الشّاي لأصرف مجرى الماء من أوراق النعناع التي طغت عليه فسدّتهُ، توقفتُ برهة مع الذكريات قبل صبّ السائل داخل الفنجان، يعود الماضي الآن وهزّة يديْ جدتي تعود إلي الآن، جدتي التي دللتني واعتنت بي وصبّت لي الشاي، تلك المرأة الحنون التي غمرتني حبا وحنانا..”.
أفرغتُ الإبريق الحديث، وأعدته فارغا إلى مكانه، وعادت الحياة إلى مجراها شبه العادي في المدينة المنكوبة، لكن أبت الذاكرة إلا العودة إلى حضنها، أشتهي جدتي في أيامي العصيبة ولا أجدها، أتوق إلى ابتسامتها الناعمة والداعمة، طبطبت رأفة على كتفي، أحن إلى أناملها، إلى رقتها، وإلى فاه صوتها كلما تكلمت، ومخارج الحروف التي نطقتها.. أخشى أنني نسيت كيف كان، لقد ذاب صوتها من ذاكرتي وذهب، كما تذهب مياه النهر الجارية الآن، وبسرعة فائقة إلى المحيط، مياه غاضبة ومحبوسة، مخلفة خلفها الكثير من الدّمار، لقد ضاع من ذاكرتي صوت جدتي، وبقي الإبريق فقط، حامي الذكريات من التلاشي والاندثار!.