الكاتب منير الحردول – المملكة المغربية

من أكثر الأمور غرابة في المجال الجيوسياسي الاستراتيجي، هو التساؤل المستند على دراسة الأحداث التاريخية، تساؤل مضمونه المختصر ينحصر في عبارة مفادها يتلخص في عباة مركزة وهي كالتالي: كيف صمدت، واستطاعت البشرية كل هذه المدة، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945، أن تتجنب نشوب و اشتعال حرب عالمية أخرى ثالثة!
فطبيعة الحرب الكونية الثانية، المدمرة لأوربا بالأساس، والتي اكتوت  كل دول العالم بنتائجها الكارثية، بشريا واقتصاديا، ومدى بلورتها وتصورها الجديد
للخريطة السياسية، العالمية غير المستقرة، وتفصيل مسار جديد للعلاقات الدولية لما بعد الحرب، بمقاس الدول المنتصرة، نكاية في دول المحور، التي قادتها ألمانيا في عهد أدولف هتلر النازية، يعد أمرا بديهيا في سياسة الانتصارات الحربية.
ولعل النتائج و الزعامات التي أصبحت تتحكم في خيوط اللعبة السياسية العالمية، وهي قوى تبقى معدودة، لكنها فاعلة ومؤثرة في مجمل سياقات، وخبايا دهاليز السياسات الاقتصادية، والإعلامية، والثقافية، والعسكرية الخفية والمعلنة نسبيا! كالولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا، المتمعة جميعا بحق النقض داخل مجلس الأمن. هذا المجلس، الذي أريد له ضمان استمرار السلم العالمي، حيت تمت صياغته وفق نموذج اصلاحي لتفادي الأخطاء التي أدت إلى فشل عصبة الأمم، ودفعت بالدول الديكتاتورية للتمرد على مقررات مؤتمر فيينا، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. خلافا لدول كثيرة، صاعدة اقتصاديا وعلميا وسياسيا حرمت لحد الآن من هذا الامتياز. وأمست القوى المتحكمة هي الناهية والآمرة في هذا العالم، الذي تحرك خيوطه مصالح متعددة الاتجاهات والمشارب، تلك المصالح قد تكون خفية، لكن قراراتها وأفكارها تلعب في جل الصراعات العالمية، و الاقليمية والقطرية.
والأغرب في هذا العالم الذي أضحى مليئا بالأحزان تارة، والصدمات الدورية تارة أخرى، إذ، لم يندفع ساسة العالم، خصوصا الدول العظمى نحو اشعال حرب عالمية ثالثة، رغم الظروف المواتية، القادرة على الدفع بلهيبها الحارق في أية لحظة، بالنظر لتشابك المصالح، وتناقضها في الكثير من الأحيان، حول العديد من القضايا الاستراتيجية الدولية، التي سالت فيها الكثير من القرارات والمواقف المتضاربة، والممزوجة بدم الأبرياء، والمنتعشة اقتصاديا وماليا بتجارة الأسلحة، وتحقيق الأهداف الخفية من خلال تأييد طرف على طرف آخر، في تشابه كبير للمسار الذي سارت عليه الحربين الباردتين الأولى والثانية، إذ تحولت البلدان الضعيفة سياسيا أو المنهزمة ثقافيا أو العاجزة اقتصاديا، كلوح للشطرنج يتناوب على اللعب به وفيه الكبار! في مقابل اكتفاء الدول التابعة بالمشاهدة، والاندهاش، والخوف من أن يقلب اللاعبون الطاولة، وتسقط اللعبة في مستنقع يجهل كيفية الخروج منه! هذه الألعاب والألاعيب الموظفة للذهاء البراكماتي، والذكاء الموزون والاستخباراتي هدفها أساسا الوصول إلى الاطاحة بأكبر عدد من الركائز الحامية لمفهوم أطلق عليه ظلما سيادة الدول، والشرعية الدولية، الممزوجة في بعض الأحيان بمفاهيم حقوقية كبيرة، كحقوق الانسان وفروعها المتعددة الأهداف.
فها هي الصراعات مشتعلة في كثير من المناطق كسوريا والعراق وافغانستان وليبيا، ينظاف إليها تأزم العلاقات المتكرر بين دول كبرى، تختلف جوهريا من حيث قراءتها للأوضاع، وتحويلها لخدمة أجندات تكون لصالحها، أو لصالح سياسة قادتها، الانتخابية أو القومية، أو في صالح حلفائها التاريخيين أو من له ارتباطات ثقافية بها أو مصالح اقتصادية أو منفعية صرفة! فهاهي الحروب التجارية الاقتصادية تتوسع هوتها يوما بعد يوم، بين بعض القوى الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي والصين وروسيا والهند، وهاهي صراعات جديدة مؤثرة جيوسياسيا على مصالح الكثيرين، كما هو الشأن في الصراع المحتمل أن ينفجر في المناطق المطلة على نهر النيل كمصر والسودان واثيوبيا، أو الصراع حول خيرات خزان والاحتياطي الكبير للنفط والغاز في حوض البحر المتوسط، والذي بدأ يسيل لعاب دول كثيرة كتركيا ومصر واليونان وإيطاليا وقبرص وإسرائيل.. زد على ذلك مشاكل الشرق الأوسط القديمة الحديثة كالقضية الفلسطينية وأزمة اليمن والحرب فيها، ومشاكل ايران المتعددة والتي لا تكاد تنتهي، وأزمات العراق وبروز القوميات والمطالب العرقية المقيتة المدمرة لوحدة الدول، كالقضية الكردية، والطوائف الدينية الراغبة في انشاء كيانات خاصة بها، بعدما أدركت ضعف السلطة المركزية لبعض دولها والازمة الأكرانية مع الكريملن، وخطط موسكو ودول الحلف الاطنتي غير المعلنة، مع تخوف التنين الصيني والدب الروسي من التمدد الاطلنتي صوب الشرق، خطرعنوانه البارز هو الخوف القاتم القائم، والدائم!
ولعل تواتر تلك الأحداث، وتوالي الأزمات، لا يقل أهمية عن الأسباب غير المباشرة التي أدت إلى اندلاع حربين عالميتين في 1914 و1939.
بيد أن الأوضاع الحالية، أو السالفة كانت أكثر خطورة، لكن لم تصل لدرجة دفع العالم نحو حرب عالمية ثالثة، تلك الأحداث كانت شديدة الحساسية الإقليمية والدولية، كالحرب العراقية، وتدمير نظام صدام حسين، أو ما تعرضت له الولايات المتحدة من هجمات غريبة وحزينة على العالم في11سبتمبر، أو ما تعرض له الشعب السوري من تشريد من قبل أيادي تلاعبت بعقول الجميع، واستعملت المفاهيم الديمقراطية لتمزيق الأنظمة السياسية، وفق مقاربة دقيقة اسمها الفوضى الخلاقة، أو..أو…كل هذه الوقائع جنبت ولم تسقط رغم تأثيرها الكبير، العالم في دمار كبير، لسبب بسيط، هو أن الدخول في حرب عالمية ثالثة، يعني قطعا فناء العالم، وتدمير الحياة على الكرة الأرضية، بالنظر للأسلحة النووية، والهيدروجينية، والجرثومية البيولوجية، وغيرها من  آليات الدمار التي لم يفصح عنها بعد لحد الآن. والقادرة على تدمير وإبادة البشرية بأسرها، وهو ما يفيد تحاشي الدول النووية وغيرها، توسيع الصراع، وتجنب المواجة، والاقتصار على الحروب بالوكالة خارج الحدود الأصلية لتلك الدول.
فالكثير من الدول فطنت وأدركت هذا المعطى، وبدأت تفكر في امتلاك أسلحة نووية مدمرة، كما هو الشأن بالنسبة لبعض الدول، كالهند وباكستان وكوريا الشمالية ومحاولات ايران ذلك، ناهيك عن دول غير معلنة ربما امتلكت أسلحة نووية بطرق ما !
كما أن الخطر يزداد كلما تم التنصل من الاتفاقيات المتعلقة بالحد من انتشار أسلحة الدما الشامل. وهو ما يزيد الأمر تعقيدا، في عالم على حافة الإفلاس القيمي الأخلاقي أولا والبيئي ثانيا، وأمام هذا وذاك، لا زال أهل العقل منهمكون في الاتجاه السلبي للعلم المصلحي، المرتبط بالقوميات عوض السهر على خدمة الإنسانية جمعاء، عوض التفكير بروح نقية تقي العالم مخاطر تهور قائد ما، أو سياسة مندفعة ما، قد تساهم في قلب كل الموازين، تورط العالم في حرب عالمية ثالثة، قد ينتج عنها فناء الإنسان والحيوان، فوق هذا الكوكب الجميل المشترك، الذي وجد لكي يعيش فيه الجميع، لا لكي تندلع فيه حرب عالمية ثالثة، تقضي على أمل الجميع، في حياة هادئة، مسالمة، تحترم الإنسان، مهما كان، ومن أي كان، وكيفما كان!
لذا نشوب حرب عالمية ثالثة، دمار مرعب!  قد يشكل رعبا حقيقيا، رعب تقده ازمات العالم الدورية وأنانية سياسة الأنا القطرية والقومية والاقتصادية، رعب قد يقود  البشرية صوب الخراب المحزن والمخيف، رعب ينحصر في المزيد من الألم ليس إلا!!