يعيش بطل رواية «الجوع» المكتوبة في عام 1890، للنرويجي كنوت هامسون (1859-1952) والحاصل على نوبل للآداب 1920، في حالة جوع دائم، البطل لا اسم له، يقضي أوقاته متصعلكاً في إحدى مدن الشمال الأوروبي البارد.. شخص مثقف وحساس، ونعرف من السرد أن أحواله ساءت في الأشهر الأخيرة التي تسبق حكايته، حتى إنه كان يقضي ثلاثة أيام نائماً في الفراش بسبب الدوار الناتج عن الجوع.
وبرغم شعور بطلنا بالبرد، وتمزق ثيابه القليلة أصلاً، وتنقله من حجرة إلى أخرى، أو ذهابه لكي يبيت طوعاً في سجن الشرطة بعد طرده من أكثر من مكان، إلا أن الجوع كان هاجسه الأساسي، يكتب أحياناً بعض المقالات ويذهب بها إلى إحدى الصحف فيحصل على مبالغ زهيدة يسد بها رمقه إلى حين، والملاحظ تميزه بكرم وعزة النفس، حيث يتشارك طعامه أو نقوده مع أي جائع، أو فقير يقابله في الطريق، وفي أجزاء طويلة من السرد يتجنبه الحظ فيُرفض مقاله، أو يغيب رئيس التحرير فلا يجد أمامه إلا المشي في الشوارع والميادين، وهو في حالة أشبه بالهذيان.
الرواية دورات متكررة من الجوع، وقصة على الهامش لفتاة يقابلها أكثر من مرة في الشارع، وكانت على وشك أن تغير حياته بالحب، لولا أنها صدته في النهاية.
السرد في تلك الرواية لوحات متلاحقة ومزعجة عن جوع لا نهائي، جوع قاس لا يُحتمل، وما يزيد من شراسته تجاه البطل وإزعاجه لنا، أنه جوع لا يفكر إلا في الجوع، فلا إحالة لنوعية طعام مشتهاة، ولا ذاكرة للبطل مع الأكل، ولا صور فوتوغرافية للمطاعم، أو المخابز، أو الأسواق، ولا تورط في تشمم الروائح، ولا نقد لمجتمع طبقي، ولا أحلام بتغير الحال.
ويتجسد الجوع بأبشع صوره عندما يكرر البطل مقولة: «الجوع يعضني» بصيغ مختلفة، وفي بعض الأحيان لا يكون أمامه إلا مص أصبعه، أو مضغ الخشب، أو لحس الحجر، وفي مرة ذهب إلى جزار وطلب منه عظمة وادعى أنها لكلبه، و انتحى بها في أحد الشوارع الجانبية وظل يقرض فيها، وفي مشهد آخر جرح يده لكي يتذوق طعم الملح في الدم، وبين صحوه وإغمائه يستمع إلى صوت قلبه، ليكتشف كينونته المهدرة بسبب أوضاع أقوى منه.
الرواية تحفة أدبية، وحققت لهامسون شهرة واسعة، وتأثر فيها بأوضاعه المأساوية التي عاشها في الصغر، ولا يمكن إلا أن تلامس وتراً خفياً في أعماق كل قارئ، وتشعره بحساسية مؤلفها المفرطة، حساسية ورفض للأوضاع قادته في أواخر حياته إلى دخول مصحة الأمراض العقلية.