شكّل الموقف اللافت، الذي أعلنه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، مساء أمس الاول، من التحقيقات الجارية في ملف أحداث الطيونة وعين الرمانة نقطة تحوّل من شأنها احداث صدمة قاسية للمنحى التحريضي المتمادي ضدّ حزب “القوات اللبنانية” ورئيسه سمير جعجع وهو المنحى الذي تصاعد البارحة على السنة مسؤولي ونواب “حزب الله” بإسناد فوري من “التيار الوطني الحر”. وعلى أهمية موقف البطريرك، فإنّ ما لا يمكن تجاهله أيضاً هو أنّ الاندفاع المحموم الذي مضى عبره “التيار الوطني الحر” في الهجوم على من وصفها بالأكثرية الرافضة للإصلاحات في مجلس النواب في معرض إعادة تثبيت موقفه الرافض للتعديلات التي أدخلت على قانون الانتخاب والإشادة برد رئيس الجمهورية ميشال عون لقانون التعديلات بما يكشف التطابق الكامل بين الرئيس عون وتياره في مواجهة الأكثرية النيابية. وقد تسبّب الهجوم اللاذع الذي شنه التيار على حركة “أمل” و”القوات اللبنانية” معاً في تفجير حرب كلامية حادة تمثّلت في رد عنيف للغاية لحركة “أمل” على “التيار الوطني الحر” لم توفر فيه العهد.
أمّا موقف البطريرك الراعي، فجاء في عظة ألقاها أفي افتتاح مسيرة السنودوس للأساقفة في الكنيسة المارونية ومن أبرز ما جاء فيها: “من المؤسف أنَّ مواقفَ بعضِ القوى تُهدِّدُ مصلحةَ لبنان ووِحدتَه، وتعطّل مسيرة الدولة ومؤسّساتها ودستورَها واستحقاقاتِها الديموقراطيّةَ وقضاءَها، ويحوِّرون دورَ لبنان وهُوِيّتَه ورسالتَه، ويَمنعونَ شعبَه من الحياةِ الطبيعيّة”، مضيفاً أنّ “جميع المغامراتِ سَقطت في لبنان، ولو ظنَّ أصحابُها، في بعضِ مراحلِها، أنّها قابلةُ النجاح. ليس لبنان مغامرةً، بل هو رهانٌ على السير معًا بإخلاص. وإذْ توافقْنا على السيرِ معًا في ظلٍّ نظامٍ ديمقراطيِّ، يَجدر بنا أن نمارسَ الديموقراطيّةَ باحترامِ استحقاقاتِها الانتخابيّة. لذا، إنَّ اللبنانيّين، التائقين إلى التغيير، يَتمسّكون بإجراِء الانتخاباتِ في مواعيدها ويَرفضون تأجيلَها تحت أيِّ ذريعةٍ كانت”.
وتابع الراعي: “السير معًا يقتضي عدالةً تحمي الحقوق والواجبات بالمساواة بين المواطنين. والعدالة هي ضمانة النظام الديمقراطيّ. إنّ الدولة بشرعيّتها ومؤسّساتها وقضائها مدعوّةٌ إلى حمايةِ شعبِها ومنعِ التعدّي عليه، إلى التصرّفِ بحكمةٍ وعدالةٍ وحياديّة، فلا تورِّطُ القضاءَ وتُعرِّضَ السلمَ الأهليَّ للخطر إذ أنَّ الظلمَ يولِّدُ القهرَ، والقهرُ يولِّدُ الانفجار. إنّ القضاءِ هو علاجُ الأحداثِ لا المسببّ لها. لا نَقْبلُ، ونحن المؤمنين بالعدالةِ، أن يَتحوّلَ من دافعَ عن كرامتِه وأمنِ بيئتِه لُقمةً سائغةً ومَكسرَ عصا. هؤلاء، مع غيرِهم، حافظوا على لبنانَ وقدّموا في سبيلِ وِحدتِه وسيادتِه ألوفَ الشهداء. نريد عدلًا في السويّةِ والرعيّة ولا ظلمًا في أي مكان. ابتَعِدوا عن نيرانِ الفتنة. نحن لا نريد دولة سائبة. وحده “السير معًا” بروح المجمعيّة المسؤولة، والإصغاء المتبادل والتمييز المشترك يحفظ شرعيّة الدولة وسيادتها الداخليّة والخارجيّة”.
وقال الراعي: “موقفُنا هذا هو دفاعٌ عن الحقيقةِ والمواطنين الآمِنين في جميع المناطق المتضرِّرة. ونتمنى أن يَحترمَ التحقيقُ مع الموقوفين حقوقَ الإنسانِ بعيدًا عن الترهيبِ والترغيبِ وما شابه. لا نريد تبرئةَ مذنِبٍ ولا اتّهامَ بريء. لذلك، لا بد من تركِ العدالةِ تأخذُ مجراها في أجواءَ طبيعيّةٍ ومحايدَةٍ ونزيهةٍ. ونَحرِصُ على أن تَشمُلَ التحقيقاتُ جميعَ الأطرافِ لا طرفًا واحدًا كأنّه هو المسؤولُ عن الأحداث. إنّ الجميعَ تحتَ القانون حين يكون القانونُ فوق الجميع”، مضيفاً أنّ “أحداث الطيّونةـــ عين الرمانة على خطورتها لا يمكن أن تَحجبَ التحقيقَ في تفجير مرفأِ بيروت. فلا يمكن أن ننسى أكبرَ تفجيرٍ غير نوويٍّ في التاريخ، ودمارَ بيروت، والضحايا التي تفوق المئتين، والمصابين الستةَ ألاف، ومئات العائلات المشرّدة. إنّنا نحذّر من محاولةِ إجراءِ مقايضةٍ بين تفجيرِ المرفأِ وأحداثِ الطيّونة- عين الرمانة. فمواصلةَ التحقيق في تفجيرِ المرفأ يبقى عنوانَ العدالةِ التي بدونها لا طمأنينة”.
أمّا في سياق الحملات التصعيدية التي يستمر فيها “حزب الله”، فقد قال أمس الاول نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم: “اليوم تحول المحقق العدل طارق البيطار إلى مشكلة حقيقية في لبنان، أردنا أن يكون هناك محقق حقيقي من أجل أن يكشف ما الذي حصل في مرفأ بيروت، من أجل أن يحقق العدالة في كل الأدلة، ولم يعد مأمونا على العدالة وهو يستنسب ويسيِّس التحقيقات بطريقة مكشوفة ومفضوحة، وآخر ما سمعنا أن أهالي الضحايا أصبحوا يرتابون منه، وأنه بسببه كادت تحصل فتنة كبيرة في الطيونة، وفي المنطقة، إذا ما هذا المحقق الذي جاءنا بالمشاكل والمصائب ولا أمل منه بأن يحقق العدالة، الأفضل أن يرحل من أجل أن يستقر الوضع ومن أجل أن يحصل الناس على عدالة موصوفة لمعرفة الحقائق”.
وفيما واصل قاسم حملة الحزب على “القوات اللبنانية” لاقته بعد وقت قليل الهيئة السياسية في “التيار الوطني الحر” برئاسة النائب جبران باسيل، فجدّدت “ادانة (التيّار الوطنيّ الحر) لمشهدية الفتنة الميليشوية التي ظهرت في الطيونة بوجهيها الإستفزازي والإجرامي، والتي شهد اللبنانيون على تواطؤ وتناغم كتلتيها في مجلس النواب. وقالت إنّ ”التيّار يؤكد في المقابل تمسكه بمشهدية تفاهم مار مخايل النقيض لثنائية تواطؤ الطيونة. هذا التفاهم الضامن لمنع العودة الى خطوط التماس ومتاريس النار والدم. ويلفت التيار الى أن من تباهى زوراً بدعم القضاء تهرّب من المثول أمامه للشهادة ويعمد الى حماية العديد من المطلوبين، في تصرّف أقل ما يقال فيه إنه يكرّس سياسة الهاربين المتعالين على القانون والدولة، لا سيما مع تحوّل قلعته الى ملجأ للهاربين من العدالة” .
وسرعان ما ردت حركة “أمل” على التيار ببيان عنيف جاء فيه: “فعلاً إن لم تستح فأفعل ما شئت. لم يعد يخجل التيار الوطني الحر في بياناته من العيوب والمصائب التي أدخل فيها البلاد خلال عهده وصولا الى قعر جهنم، وفق ما بشر رئيس الجمهورية اللبنانيين في خطابه الشهير.
وبات هذا التيار في ظل البطالة والإرباك السياسي والشعبي الذي يعيشه، يحاول الهروب وخلق سيناريوهات وهمية وفاشلة من عقله المريض للتغطية على واقعه، وعلى ما ارتكبه من جرائم سياسية ومعيشية بحق اللبنانيين. وهو تيار يحاول استغلال تفاهم سياسي في مار مخايل لزرع الفتن والمس بالتحالف المتمثل بالثنائية الحقيقية بين #حركة أمل وحزب الله، والذي تعمد بدماء الشهداء الذين سقطوا في الطيونة جنبا الى جنب ليجسدوا عمقه في مواجهة تسييس القضاء عبر الغرفة السوداء برئاسة سليم جريصاتي، والتي تحرك وتدير عمل القاضي طارق البيطار، وفي مواجهة منطق التعصب والإنعزال الطائفي الذي يعيشه التيار وجمهوره، وهو الذي يعرف تماما أننا لم نتحالف يوما مع حزب القوات اللبنانية، فيما سارع لاهثا التيار ورئيسه لتوقيع اتفاق معه لتقاسم الحصص والمناصب والوصول إلى الرئاسة، في تجاوز واضح لكل الشعارات السياسية التي يرفعها. ونحن الذين رفضنا وصوتنا بورقة بيضاء لأننا كنا نعلم يقينا أن تيارا بهذه العقلية لن يوصل البلاد الا لما وصلت اليه من تراجع سياسي واقتصادي، وحتى فى أخلاقيات العمل الوطني”.