زينة شهلا

جسد نحيل، وعينان ذاويتان، وبضع مئات من الكتب التي تملأ رفوف مكتبة صغيرة، ومنزل محفور في الصخر، هي كل ما يملكه جورج زعرور، ابن مدينة معلولا القلمونية في ريف دمشق، لإكمال أبحاث وكتب ودراسات عن اللغة الآرامية التي تخصص بسبر خفاياها منذ أولى سنوات شبابه.

وبمساعدة عدسة صغيرة تعينه على القراءة مع تراجع حال بصره بشكل كبير، يقضي الباحث الستيني ما لا يقل عن ثماني ساعات يومياً بين المراجع والمخطوطات والأوراق التي يكتبها بنفسه، والترجمات التي يشرف على تنفيذها، مسافراً بمتعة في بحر من اللغات القديمة التي يخشى عليها من الزوال، لقلّة الاهتمام بها.

“اللغة هي وعاء هويتنا وحضارتنا، وبوصلتنا التي توجهنا أينما ذهبنا” يقول لي ونحن جالسَين في مكتبته الصغيرة، التي تقع على مشارف مدينة معلولا. لا يخفي الرجل حزنه وألمه على حال المدينة، التي هجرها قسم كبير من سكانها، وحال اللغة الآرامية التي حضنتها جبال القلمون لقرون طويلة، وتبدو اليوم أشبه بمريض ينازع للبقاء، دون اكتراث كثيرين ممن هم حوله بمساعدته وبث روح الحياة فيه.

سنوات من العمل الدؤوب

تزامن التفات جورج زعرور إلى الاهتمام بتاريخ معلولا واللغة الآرامية مع بداية معاناته من ضعف شديد في عينيه، وكان حينها في أواخر عشرينياته، متخرجاً من كلية الاقتصاد. سافر إلى إسبانيا لتلقي العلاج، وأذهله هناك الصيت الذي تتمتع به المدينة ذات الأهمية التاريخية والدينية المسيحية، والآرامية وهي لغة السيد المسيح التي اشتهرت معلولا ومدن أخرى مجاورة لها بأنها حافظت عليها كلغة محكية بين السكان حتى اليوم.

عاد زعرور إلى سوريا محمّلاً بخيبة أمل من إمكانية علاجه من ضعف شديد في العصب البصري وشبكية العين، وفي الوقت نفسه بعزيمة على أن يبدأ مشروعاً لم ينتهِ حتى اليوم. “القراءة والكتابة كانتا أهم ما في حياتي، وكنت أنفق كل أموالي على شراء الكتب. احتمال أن أخسر ذلك شكّل حافزاً مضاعفاً للعمل، ومن ذلك الحين تحوّلت هذه العدسة لرفيقة دربي” يقول ممسكاً عدسته التي كُسر طرفها وأعاد تصليحها مراراً وتكراراً.

بداية، قرر الرجل كتابة تاريخ معلولا بشكل مختلف عما هو موجود، وبطريقة علمية موثقة لا تعتمد النسخ وتكرار المعلومات دون التحقق منها. لم تكن بالمهمة السهلة مع قلة المراجع ذات الصلة، وكانت النتيجة عددا من الكتب والمخطوطات التي تتحدث عما تحتويه المدينة من أفران ومعاصر وعيون ماء وطرق ومنازل وتنانير خبز وأديرة وكنائس، اعتمد فيها الباحث على الاطلاع على كل تلك المعالم بشكل شخصي، وأيضاً على البحث المعمق والاستنتاج من كتب ونقوش قديمة، تتحدث عن المدينة والحقب المختلفة التي تعاقبت عليها وما تركته وراءها من آثار. بعد ذلك، انصب اهتمامه على دراسة كل ما يتعلق بالآرامية، وهي اللغة التي يتحدثها لفظاً وليس كتابة منذ نعومة أظفاره، كما هو حال أهل مدينته. تبحّر ودرس مئات النقوش والكتب والمخطوطات المكتوبة بالآرامية، وقارن بين أنواع الخطوط المستخدمة في كتابتها، ومنها القلم الآرامي الدائري والقلم العبري المربع، كما تعمق في الاختلافات بينها وبين لغات أخرى كالسريانية. كان هدفه في نهاية المطاف “استخلاص مفردات وألفاظ ضائعة ومعلومات عن سوريا يمكن معرفتها من خلال دراسة القلم الدائري، وهو الإناء الحاضن للغة الآرامية، والوصول للغة السورية الأم” كما يشرح.

تعليم اللغة وتوثيق مصطلحاتها

ومع هذه الدراسات المعمقة، وضع زعرور كتباً باللغة الآرامية ما زالت تنتظر التنضيد والطباعة والنشر، منها كتاب شعر عنوانه “معلولا مزامير آرام” وآخر بعنوان “قصص الآباء والأجداد” وكتب تتعلق باللغة بحد ذاتها منها “آرامية معلولا وآرامية نبط” و”آرامية معلولا وآرامية حضر” و”الثنائية الآرامية وأهميتها بالوصول لنشأة وتطور الكلام” وأخرى تهدف لتعليم اللغة وتوثيق مصطلحاتها. ويعكف الآن على وضع اثنين وعشرين مجلداً عن مقاييس اللغة الآرامية، أنهى منها سبع مجلدات، كما يعمل على مشروع ترجمة العهد القديم من الكتاب المقدس للآرامية، مستعيناً بعدسته المكبرة، وهاتفه الجوال الذي يسمح له بالاطلاع على صور الصفحات التي تتطلب الترجمة، ثم تسجيل المقابل الآرامي بشكل صوتي للسهولة. “أريد للغة الآرامية أن تكون في مصاف اللغات الأخرى، وقادرة على أن تنقل موروثنا وحكاياتنا للعالم أجمع، فهي لغة صمدت وانتشرت بقوتها الثقافية، على عكس لغات أخرى، كانت في حاجة لامبراطورية وقوة عسكرية تحميها وتساعد في انتشارها” يقول الباحث ويشير إلى فروة رأسه مضيفاً بابتسامة: “خلال رحلتي هذه ازداد بياض شعري، وكل شعرة بيضاء فيها حكاية من حكايات كفاحي في سبيل اللغة الآرامية”. من هذه الحكايات أيضاً مساهمته في تأسيس معهد اللغة الآرامية في معلولا، وإشرافه على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه المتعلقة بهذه اللغة في عدة جامعات سورية.

من هنا أدق لكم ناقوس الخطر

اضطر جورج زعرور للنزوح من معلولا حين قرع أحد فصول الحرب السورية أبوابها عام 2013، وغاب عن منزله ومدينته لمدة تقارب العام، وعندما عاد وبدأ بمعاينة الأضرار التي خلفتها المعارك والقذائف، تفاجأ بحال مئات الكتب التي كانت في منزله. “بدا لي وكأن الكتب أقوى من الحرب، فشظايا القذائف مرت بجانبها دون أن تمسها، ورغم أن الغبار كان يعلوها لكن معظمها كان بحال جيدة” يحكي بصوت لا يخلو من الانفعال.

هنا، قرر الباحث أن ينقل جزءاً من هذا الكنز الأدبي والثقافي الذي يملكه إلى مكتبة، عمل على تجهيزها وافتتاحها بعد انتهاء الحرب في معلولا، مطلقاً عليها اسم “مكتبة مزامير آرام” وباتت مقراً لعمله وأيضاً مكاناً لبيع الكتب وبعض الأيقونات والتذكارات الدينية. لكن للأسف، لم يشارك كثر من سكان معلولا معلم الآرامية حماسه ورغبته بالعودة، فالمدينة التي قطنها قبل الحرب حوالي ستة آلاف نسمة، لم يبقَ فيها اليوم سوى ربع هذا العدد تقريباً، حيث نزحت غالبية السكان وفضلوا الاستقرار خارجها، حتى بعد انتهاء المعارك لأسباب منها ضعف الخدمات والبنى التحتية. بذلك دق الباحث ناقوس الخطر بعد عودته لمعلولا، بما يخص الآرامية التي لم يعد يتقنها بشكل حقيقي سوى كبار السن في المدينة، وعدد قليل من الشباب، ويعزو ذلك لعدة أسباب، إلى جانب هجرة السكان، منها تحول اللغة لمادة استهلاكية يقتصر تعليمها على طرق سطحية لا تفيها حقها، ويتعرض الراغبون بإتقانها للاستغلال من مؤسسات لا تعطي سوى مجرد شهادات ورقية، في حين تقف المؤسسات التي يفترض أن تهتم بها بشكل حقيقي موقف المتفرج أو المهمل، “في هذه الفترة، المنبر للجاهل وليس للعالم” يصف الباحث حال اللغة اليوم.

وتحتاج الآرامية، وهي الكنز الوحيد المتبقي من التراث الآرامي كما يقول زعرور، لجهود عاجلة تحول دون أن تنقرض، وترممها وتنقذها من مفردات دخيلة عليها، وتحافظ على الموروث اللغوي الموجود حالياً. أهم تلك الجهود وفق رأيه تدريس الآرامية ضمن مدارس معلولا الرسمية، منذ مراحل الدراسة الأولى، فالصغار هم الأقدر على تعلمها بشكل حقيقي ثم نقلها للأجيال التالية. كما يدعو أهل المدينة للعودة إليها، معتقداً أن “من ليس له ماضٍ وتاريخ ليس له مستقبل، وكل من هجر مدينته ولغته ستحل عليه لعنتهما وسيبقى مشرداً دون هوية وعنوان”. هذا الناقوس لقي مؤخراً آذاناً صاغية من إحدى المؤسسات الثقافية، وهي مؤسسة “الياس حنا التراثية الخيرية” إذ زار القائمون عليها زعرور في مكتبته منذ أشهر، عارضين عليه التعاون والدعم المادي والمعنوي بهدف إحياء اللغة الآرامية. أتاح هذا العرض لزعرور إقامة دورات لتأهيل معلمي اللغة الآرامية، ثم دورات مجانية لتعليم اللغة للطلاب، لقيت وفق حديثه إقبالاً كبيراً من العشرات من أبناء البلدة.

“لعله بداية العلاج الصحيح للغتنا الآخذة في التدهور، وانطلاقة لها لتعود وتسير على الطريق الصحيح” يقول بحماسة لا يمكنه إخفاؤها.

يودعني الباحث على باب المكتبة بقصيدة من تأليفه. يلقيها أولاً بالآرامية ثم يترجمها للعربية بأبيات مقفاة أيضاً. يقول أحد مقاطعها “السيف إن ظلّ في قرابِه، فالعصا أفضل منه. والإنسان من دون كتابه، أخجل ماذا أسميه. أعطوا ساعة للكتاب، حتى تروا النور”.