الكاتب: منير الحردول
أمام واقع غريب ترزح فيه أغلب دول العالم النامي في خندق تراجع تنموي ملحوظ، تحت ظل عالم يتسم بتناقضاته الصارخة، وانفصام لا مثيل له بين الأقوال والأفعال، في عوالم السياسة والمال والأعمال. عالم يأسف الضمير الحي على مجاراة الطريق المنحرف، الذي يريد أن يؤسس لعبارة أطلق عليها ظلما وعدوانا متطلبات المرحلة والسهر على حماية مصالح بلدان الدول الفقيرة الضعيفة!
فكيف يعقل للعاقل، أن يتقبل الخطابات المنادية بالصدق، وربط المسؤولية بالمحاسبة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والشفافية، في دول تصنفها جميع التقارير أنها غارقة في الفساد بكل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهكذا دواليك. فساد يحوله أعداء نكران الذات إلى قمع بهدف الحفاظ على مناصبهم إلى ما لانهاية، في مقابل الاستمرار في استهلال الخطابات الجميلة، التي تسعد من يسمع لها، لما تحمله من وهج مفعم بحماسة موسيقى الأمل، التي تؤثر على العقول البسيطة الساذجة والبريئة! مراوغات لها من والوهج الاحساسي ما يوحي إلى العدالة والحق، والاخلاص لثوابت شعوب وجدت على أرض و أراضين مليئة بالخيرات، سواء في إفريقيا أو آسيا أو بعض دول أمريكا الوسطى والجنوبية، خيرات كلها طموح وأمل منشود في عقول وجدان شعوب تلك الأقطار المترامية الأطراف.
إذ، أن أنصار التقليد الأعمى، يقلدون كل شيء، بدءا بالثقافة اللغوية، مرورا بالبرتوكولات المظهرية، لكن في المقابل يرفضون ويتغاضون عن المهم، مهم، خلاصته نكران الذات، وتحمل المسؤولية، والسبق للاستقالة من المسؤولية في حالة الوقوع الأخطاء الفادحة، أو الهفوات الكارثية، عوض انتظار الإقالة أو الثورات أو الانقلابات، أو الدفع ببلدانهم إلى الاصطفافات العرقية، والقبلية والدينية، وغير ذلك كثير. فلا يعقل لمن يدعي الثقافة وحماية مصالح شعبه، ويسهر على حماية الحقوق، والدعوة إلى حرية الرأي والتعبير، أن يجنح للاختباء من رأي عام ينادي بالترفع عن الذاتية، وإعادة الاعتبار للعمل السياسي، والتناوب وفق مصلحة شعوب لا زالت ترزح تحت أنين الخصاص في كل شيء، والحياة الحزبية الاقصائية في أغلب الأحيان، أو سياسة الأحزاب الوحيدة الديكتاتورية، أو الحكومات المظهرية التي تسيرها القوة العسكرية، والتي تحولت للأسف لضيعات محاطة بسياج شائك يمنع الترقي، أو الولوج إليها دون ضمانات متعلقة أساسا بالولاءات، والصفقات، وهندسة التحكمات،الموسومة بكثرة العراقيل في كل شيء، مع كثرة الولائم والحفلات، في مقابل تهميش المواهب والمهارات، والزج المبالغ فيه، بأصحاب أوراق الشهادات الأكاديمية، كمعيار وحيد لتحمل مسؤولة ما، عوض السماع للأفكار الجديدة، والتي قد تكون معبرة، ولو كان مصدرها من شخص لم يلج المدارس الرسمية في حياته قط. إذ، هكذا ضاعت على بلدان العالم النامي فرصا ذهبية، عنوانها الانعتاق من التبعية البنيوية والهيكلية، المحاصرة بضغوطات لا حصر لها، ضغوطات عنوانها عدم فقدان المناصب ليس إلا، أو محاولة الضغط في اتجاه ادخال البلدان في رداهات عدم الاستقرار المؤقت والمتحكم فيه وبه، والذي أصبحت تديره دول تسعى للابقاء على الهيمنة الأبدية، في إطار ترسيخ قيم التابع والمتبوع إلى ما لا نهاية!
ولعل البلدان التي تقع في محيط مليء بمختلف التحديات، حتما ستكون مستهدفة من الأصدقاء قبل الأعداء، بيد أن هذا الاستهداف قد يولد نتائج أقل حدة! لو قام الضمير بصحوة من تلقاء نفسه، وابتعد عن تقديس الكراسي، و تمعن في النظر إلى الديمقراطيات العريقة، ومدى تأثير الرأي العام على مسار الحياة السياسية للكثير من صناع القرار، دون التورط كما يقع في البلدان التي لم تسعفها التسميات المتنوعة من عالم متخلف إلى عالم ثالث، ثم الدول السائرة في طريق النمو، إلى أن استقرت تسمية الدول النامية على أقطار لا زالت حائرة في فك شفرة التنمية! فالفضائح وخرق القوانين، واعطاء صورة سيئة عن ثقافات النماذج التنموية، رغم المجهودات الكبيرة التي تبدلها الكثير من دول العالم الثالث، تبقى السمة التى تطبع تمثلات شعوبها، فترفع الراية البيضاء للتخلف بشكل العام، وتغرس فيها عقدة التفوق الغربي أو الأجنبي، وهو ما يجعلها في دفة قطار يقوده من يحسن اللعب بشطرنج ثقافات متعددة، وهذا موضوع آخر سنسهب فيه بمقالات في المستقبل القريب!
كما أن الجانب المرتبط بالحقوق، خصوصا المرتبطة بحقوق الإنسان يبدو أنه قد بدأ ينحرف عن مساره الطبيعي، وتحول لوسيلة للضغط ليس إلا! بهدف الحصول على مناصب نفعية معينة، أو مناصب قيادية بارزة، بل وصل الأمر عند البعض لدرجة الخيانة، أو استخدامه بهدف الحصول على منافع أو تنازلات ذات مرامي وأهداف خفية أو معلنة، يعلمها صناع قرار تلك الدول المغلوبة على أمرها جيدا، ، فهاهي المنظمات التي تدعي الحقوق تدافع عن القتلة والمغتصبين، باسم حقوق الإنسان، بل تشوه سمعة البلدان الضعيفة من خلال الطعن في مصداقية ثقافة شعوبها، ناهيك عن العداء العرقي أو الاديولوجي أو الديني، والذي تحول لحروب أهلية، حروب أضحت مساهمة في التضحية بمقدرات الشعوب، خصوصا في بعض الدول الإفريقة، وبعض دول الشرق الأوسط، الصراع الذي توظفه أو يوظفه البعض، ويتم تكييفه مع حقوق الإنسان الكونية، بهدف الوصول لمبتغى الاقصاء، وتهديد وحدة البلدان، وتلاحم الشعوب المتنوعة، بعيدا عن مفاهيم التنافر، والصراع الذي يساهم فيه من يصطاد في الماء العكر، بانحرافه وتشتيت جهود الجميع بهدف أكل الغلة بدون إعطاء مقابل، للخروج من دائرة الفقر المتعدد الأبعاد. كما أن السياسات التي لاتخجل حين تدافع عن أشياء جوهرية، في المنظومات السياسية الاقتصادية وحتي الإنسانية، دون بلورة أفكار مستقلة قادرة على تحقيق الاقلاع في اتجاه الالتحاق بمصاف البلدان الصاعدة، تبقى عموما قاصرة في كل شيء، فهذا الطموح للأسف تعرقله أفكار لا تؤمن بالتناوب، بل مقدسة للمناصب ومتعجرفة لأنانية الأنا! ولا أحد سوى أنا، مع التمادي في الاستهتار عند تحمل المسؤولية، والتحايل عند الاعتراف بالأخطاء. ولعل اعتبار منهج الوعي من المناهج التربوية و السياسية لأمر محمود، في عالم اسمه نكران الذات. فالبلدان النامية مليئة لحسن الحظ بالكفاءات، ومفعمة بشعوب تسعى لكي تصل إلى الحرية والعيش الكريم، دون المغامرة وقطع الحدود، أو وركوب الأمواج، أواللجوء إلى العنف بمختلف دوافعه الاجرامية، بعيدا عن التفاهة الانتخابات، الصورية، والتي انحرفت عن أهدافها التدبيرية التنموية في أغلب الأمور. انتخابات تحولت في بعض البلدان للأسف خصوصا الفقيرة جدا، في اتجاه بناء تحالفات مذهبية أو عرقية قبلية، واضحة وضوح الشمس في فصل الصيف، عنوانها وجوهرها نفسي ثم نفسي، ولا تهمني إلا نفسي وأبنائي وأسرتي وعشيرتي المطيعة! وكأنها خرقت أزمنة، ودخلت مباشرة في زمن يشبه يوم القيامة، رغم أن قيامة البشر حتمية في دنيا تافهة، قصيرة غير عادلة بشهادة التاريخ والشرائع السماوية والديانات الوضعية!
فالمجد للشعوب الواعية الإنسانية والمسؤولة، في عالم عليه أن تتجه أفكاره في مسار إسمه احتضان الجميع، والهداية لمن ينظر ويتمعن في حجمه الحقيقي، حجمه المكشوف أمام مرآة، مرآة أظن أنها تعكس حقيقة الجميع.
فالعالم النامي، يحتاج لوعي جماعي عنوانه الثقة في القدرات العامة، واحترام حقوق الجميع، وفق مقاربة تطابق الحقوق مع الواجبات، بغية الوصول لنضج سياسي عنوانة المواطنة الكاملة للجميع، لا الطائفية والعرقية والمذهبية، والذي يؤكد التاريخ، أن النتائج المترتبة عنها، تقتصر على زرع الأحقاد والكراهية، بين المجموعات البشرية المتنوعة،والمفروض عليها القبول بهذا التنوع، ما دام هذا التنوع والاختلاف، يندرج في إطار سنة الكون العظيمة، المحكمة، الثابتة، في عالم يحتاج لتنوع روافد ثقافة الجميع.