عبير حسن العاني

كاتبة وإعلامية – سدني

لم يخطر ببالِ كل من سكنَ سدني التي تتميزعن باقي مدن استراليا بالنشاط والحيوية على مدار العام أنَّ شوارعَها قد تصبح خاوية من المارة يوماً ما، وأغلب مرافقها الحيوية مغلقة بالكامل. كان مجرد السير في أزقتها يبهج النفسَ ليس لجمال التفاصيل والحدائق والمنازل ونظافة كل ركن فيها وحسب، بل والاستمتاع برؤية سكانها ذوي الجنسيات المتعددة والملابس المتنوعة والثقافات المختلفة القادمة من كل بقاع الأرض، حتى أننا نكاد نسمع أغلب لغات ولهجات الشعوب بمجرد جلوسنا  أو التنزه في أي حي من أحيائها الكثيرة.

ولعلنا نحن القادمين من شرق أوسط دائم الزحام ومن دول صاخبة نهاراً وليلاً، أعتدنا على استغلال الوقت أكثر من غيرنا، باستثماره تارة ً وملئه تارة بأي شيء “لنطوّع” الدقائق لرغباتنا البسيطة الكبيرة التي أدركنا قيمتها بعد ان تعايشنا عقودا مع واقعٍ مرير فَرض علينا أزماتٍ ونكبات وحروبا خارجية وداخلية!

وخلال فترة  الحدِّ من مظاهر التجوّل التي بدأت في سدني قبل ستة أسابيع، لاحظتُ أثناء تنقلاتي البسيطة في منطقة سكني التي يفترض أن لا أغادرها، أن الجميع يشعر بتوترٍ نفسي كبير، فالأفراد الذين يسكنون لوحدهم لم يعد بإمكانهم زيارة أقاربهم أو أصدقائهم بل وحتى الأماكن التي اعتادوا على ارتيادها كمراكز التدريب البدني والرياضي أو النوادي الترفيهية التي تحتوي على الكثير من متطلبات الراحة والمتعة كالمطاعم والموسيقى والغناء والرقص.

أما العوائل فلقد واجهت ضغوطاً جديدة بسبب تواجد جميع أفرادها في المنزل في وقت واحد، واستجدت لدى الاطفال مشكلة جديدة اسمها الدراسة الالكترونية عبر الانترنت والتي لا يفضلها أغلبهم حيث اعتادوا على الذهاب يومياً إلى مدارس تهيّئ لهم مناخاً مناسباً للدراسة واللهو وممارسة الهوايات، ولعل ما كان يمدهم بشحنات التجدد لمواصلة الدراسة هو رحلات نهاية الأسبوع التي يتمتعون بها مع الوالدين أو أحدهما على الأقل.

أما توقف العمل بالنسبة لأغلب الشركات والمؤسسات الخاصة وحتى لمن يملك مشروعه التجاري الخاص فقد زادَ من حدة توتر الأفراد وبالتالي أدى إلى مشاكل عائلية كبرى، فهنالك مَن  لم يعتدْ على الجلوس في المنزل لأوقات طويلة، هذا علاوة على تعذر إمكانية اللقاء بالاصدقاء أو السفر لأماكن قريبة أو بعيدة أو حتى قضاء أوقات مميزة في مطعم او مقهى.

لكن برغم كل ذلك وكثير غيره من الجوانب السلبية، قمتُ برصد جانب قد لم تنتبه إليه الأغلبية وربما الجميع!

حيث لاحظت من خلال سلوك الناس الذين صادفتهم  في الشارع ومحلات التسوق والمراكز الطبية بل وحتى في مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بسكان استراليا عامة وولاية نيو ساوث ويلز خاصة، ازدياد الإلفة بشكل واضح، فالكثير من الأشخاص يشكون همهم للآخرين دون سابق معرفة وأحيانا كثيرة يتنازل أحدهم للآخرعن مكانه أثناء الوقوف في طابور طويل لدفع فواتير الشراء، ويُبدي كثيرون التسامح بمرور المتبضعين عبر ممرات المحال الضيقة أحيانا والمتخمة بأعداد كبيرة يفترض أن تكون المسافات بينها لا تقل عن متر ونصف المتر! كما صادفت الكثير ممن يعطون النصح لغيرهم بشأن سلعةٍ ما، أو يحذرون القريبين لوضع الكمامة بالشكل الصحيح خوفا من شرطي يقف بعيدا!

كما انتبهت إلى ابتسامات خفية في نظرات المارة رغم اختفاء نصف الوجه خلف كمامات مملة المشهد. أما جارتي المحِبة، فقد صدمتني حين حدثتني ضاحكة عن أخرى لم تكن ترغب بأي حوار مع أحد منا ولا حتى بتبادل السلام مع أي جارة أخرى، قائلة انها بادرت بالسلام عليها لأول مرة منذ سنوات!

كل ذلك ذكرني بأيام بغداد الأليمة خلال سنوات الحروب الطويلة التي عاصرتها وأبناء جيلي، وأدمت مرارتها “الأزلية”  قلبي.

أذكر أنني في يوم من أيام حرب الخليج عام 1991 أخبرت والدي (رحمه الله) أن جيراننا أصبحوا أكثر حميمية وتسامحا وتناسوا خلافاتهم المستمرة فربما غيّرت الأزمة وتداعياتها السلبية طباعهم إيجابيا، وكأنَّ الحزن يجمع أكثر مما يفعل الفرح!

ابتسم والدي حينذاك قائلا أنه يوافقني الرأي.

مع ذلك ورغم “إيجابيات” أزمتنا الحالية في نيو ساوث ويلز، أتمنى ان لا تطول أيامنا العصيبة في هذه الولاية الجميلة التي نشتاق لكل مناطقها الساحرة، كما أحلم أن نبدأ مرحلة جديدة ونقضي أياماً مشرقة قادمة بعد أن نكون قد طهّرنا أنفسنا من بقايا أي حقد أو كراهية و مخلفات تعّصب أحمق، ويكون الفرح هو قاسمنا المشترك بعد تيقن الجميع من أن المحبة تهذب الروح، والمصائب تروّض السلوك، والعاقل هو من يدرك أن لكل شيء في الكون حكمةٌ ما، ومن يزرع الأمل في نفس يائس لن يجني إلاّ الخير، وأنَّ بني البشر مرتبطون بمصيرٍ مشترك وعليهم إعمار الأرض من خلال عمل الخير والتسامي فوق الشرور، وإننا سنجدُ دائما من خلال حبنا لبعضنا.. للحياةِ سبيلا!