عبير حسن العاني
كاتبة واعلامية – سدني
بعد أيام من الإنزواء “الإجباري” في البيت بحكم ما صدر مؤخراً في مدينة سدني من قوانين صارمة إثر تفشي (فيروس كورونا – سلالة دلتا) في عمومها، قررت ان أخرج من صومعتي لأرى حال المدينة بعد الإغلاق.
كان الطقس مثالياً تماماً، شمس خجول تطل بدفء وحنو في شتاءٍ غير ثابت الملامح بينما تستعد للرحيل إلى بقعة أخرى في هذا العالم الكروي المتقلب.. نسمة باردة منعشة تداعب بوداعة شعري المجدول إلى الخلف، وكمامتي الخانقة التي لم أستطع التعود عليها – ويبدو أنني سأعجزعن ذلك ولو طال زمنها- والتي حاولت ابعادها بين حين وحين لأتنفس نقاء الفضاء الذي أحب!
لم أصدق ما رأته عيناي، كان الحي خاوياً تماما، رغم أنه من أكثر الأماكن زحمة وارتيادا للسكان في مدينة سدني، نظرا لوجود مطاعم عربية متميزة فيه ومحال الحلويات العربية الشهية بالإضافة الى مقاهي “الناركيلة” التي عادة ما أرى طوابير الانتظار قربها على طول المدى خاصة في الليل.
كانت الشوارع ما تزال مرتبة ونظيفة، لكن مشهد المحال المغلقة والكراسي المُبعَدة المركونة فوق بعضها -والذي لا يختلف عن منظر بيت العزاء بعد يومٍ طويلٍ قاسٍ- وعدم مرور أي سيارة واختفاء بني البشر كل ذلك كان يبعث في النفس الألم والمرارة أكثر مما يفعل الفيروس اللعين.
ذهبت إلى الحديقة التي كانت في السابق تعجّ بالناس من كافة الجنسيات والفئات العمرية طوال اليوم، حيث يجلس فيها عمال البناء الذين يعملون في الأماكن القريبة ليتناولوا طعام الغداء في فترة راحتهم، بالإضافة إلى العوائل والأفراد والثنائيات المُحِبة!
أين ذهب كل أولئك؟ كنت أتساءل وأنا أهمّ بفتح وجبتي الساخنة التي أشتريتها من مطعمي المفضل القريب. تناولتها في الحديقة الخاوية من كل ما ينبض بالحياة عدا الأشجار والطيور الجميلة المتنوعة وقطة أليفة اقتربت مني وجلست تنظر بحب وكانها بموائها العذب تواسي وحشتي الكبيرة.
أنهيت غدائي وكأنه واجبٌ بيتي مفروضٌ من معلمة قاسية! نهضت لأتوسل المدينة ان تنعم علي ببشرٍ يبعد عني فكرة أن هذا الكوكب قي طريقه للفناء! لكن.. لا فائدة.
وبغفلة من المكان وموجوداته، تذكرتُ عدة حوارات لي مع أصدقائي من الرسامين حين كنت اخبرهم انني لا أعرف لماذا لا احب ان اقتني اي لوحة مهما كانت براعة تفاصيلها ان لم تحتوِ على عنصر بشري، حيث اشعر انها تفتقر لشيء مهم ان لم يكن الأهم، ذلك ما كنت أراه منذ طفولتي في اي لوحة اصادفها. ربما لأنني أدركتُ مبكراً أن الإنسان هو محور الكون وكل ما حوله يدور في فلك وجوده وقيمته.
حين وصلت العمارة التي أسكن فيها، صادفت شابة جميلة تقوم برياضة المشي السريع، فابتعدت تاركة لها الفضاء الضيق، فشكرتني مبتسمة، بينما كانت ذاكرتي تستدعي ردي حول المدن والأماكن والذي كنتُ أردده دائما حين أُسأل عن أجمل ما رأيتُ من مدنٍ حول العالم خلال أسفاري، وقد تأكد لي اليوم صواب فكرتي من أن: المدن بناسِها، وجمالها يقاس من خلال جمال أهلها!!