أمان السّيد ـ سدني
لحظات ما تنسجك مشاعر، تكون محظوظاً لو اقتنصتها بكلمات تليق ببهاء حضورها، بأيِّ وسيلة امتلكتها، ولو اعتقدت افتقارك إليها، فإنك لمخطئ لأننا نحن نوافذ لإشراق الروح متى أردنا.
»المارشميللو«.. هل أذنت له يوماً أن يذوب في رضابك، ويطلق عسله بخاراً تغدو حياله مسحوراً بطراوة الملمس، ودعة الحرير؟
أنا أدعوك كي تتحول طفلاً وتعيش تلك التجربة، فالطفل من الثَّابت أنه يستطيع الحكم برجاحة الفطرة على كل ما سُلبناه في طريقنا إلى التحجّر، والتّصحُّر! غير أني الآن ككبير أسرد، أشدك إلى تجربة أعيشها في ليال هارباً من جحيم الضجيج، وكسر روحي التي عليها أحرص، فأنا العاشق للفن، اللاهث وراءه في عمقه، أتأمل، أقرأ، أستمع إلى الموسيقى، أغرق في اللون، وأتابع الأفلام، الكلاسيكية منها، في زمن سبقني في الولادة انتهى، وبي ذاك الشغف إلى التأمل، والمقارنة، والاستنباط، والتلذذ ببساطة العطاء.
منذ أيام كان لي اتّكاء سرّي على يوتيوب مع صوفيا لورين، وريتشارد برتون في فيلم »لقاء عابر«، الذي هو من حصيلة سبعينيات القرن الماضي لمترجمة »يُوتْيوبيّة« تستحق التقدير.. فيلم حدثه البكر ثوان، لكنه عال في انعكاسات قد يعيشها أحدنا في محطات توقفنا، وقد لا يكترث لها، لكني شخصيّاً توقفت، واكترثت!
عائلة، زوجان، وطفلان، وجليستهما، الرجل عملي إلى أبعد الحدود، والمرأة جميلة بعد التخيّل، تمارس عملها بتدفق وحنان لا يخفى على المتابع، وحين تغيث طفلاً سيفاجئه القطار تدخل في عينها حصاة تصبح انبثاق حب يجمعها بطبيب متنقل يخرجها، ويفرد مكانها قلبه، كل ذلك مسرحه مقهى يجاور المحطة عبر انتظارات تتكرر.
الحب يبدأ بدردشة حول منبتها الإيطالي، ويستمر في طروح عادية، تتطور أحاسيس لا يتمكنان من السيطرة عليها، رغم اعترافهما الصادق بارتباط أسري بلا منغصات ــ تخيل معي صياد زماننا، وهو يدور ويلف متذرعاً في الوصول إلى طريدته بشتَّى الحجج ــ إلى أن يضعهما هذا الحب أمام محكّ قاس تغدو فيه التضحية مطلباً جازماً، إن تجسّد سيصيب في الصميم عائلتيهما.
ورغم أن اللقاء يتعثّر في بيت صديق يغضبه الموقف ويستهين به، لقاء سيتحول إلى إثم في العرف المجتمعي، لكن تعثّره يعيد البوصلة إلى اتجاهها السليم عند أناس تربّوا على مصادقة الذات.. الإصعاق ينتشل العاشقة الزوجة من خدرها، فترفض الانغماس فيه، في وقت تسابق دموعها قرارها الصارم! مقارنة لا بد أن يوثّق لها، شفافية العلاقات في أفلام الكلاسيكيات، وتكشّفها جرداء من أيّ قيم في سينما اليوم.
سيناريو الفيلم هناك قد كتب بدقة حرصت على التبعيات الأخلاقية، فالمرأة فيه تؤنب نفسها، وتصفها بالعاهرة لو أنها استجابت لقلبها، والرجل ذكر النحل المندفع في علاقة تُحمّل سلفاً للمرأة في اتهام سيلقي عليها مسؤولية إغرائه، أو كبح جماحه، لكن المخرج ينقل العاشق بصورة الرجل النبيل الحريص على سمعة المرأة التي معه.
مشاهد تحمل الكثير مما نفتقده في علاقات اليوم رغم الانفتاح الشديد، وسقوط الأقنعة، الرجل الذي يلاحظ في الفيلم احتفاظه بكامل ملابسه في اتجاه يغاير ما تسوّق له أفلام نتفليكس مثلاً في غالبيتها، وهي تنشرنا أمام مهرجان ساحاته استباحة العورات، وخلخلة المجتمعات، لينتهي الفيلم بالانتصار للأسرة، وللمؤسسة الزوجية مخلياً حكاية الحب تلك مناغشة وتر.
هنا يطرح السؤال الآتي: ما الذي يهوي بالمجتمعات إلى هذا الانحطاط المريع في القيم؟ أعتقد أنه استرخاص الروح حدّ الهشيم يتساوى فيها الغربي، وغير الغربي!
وهناك سؤال آخر أحرره لنفسي، وللعابرين بالفيلم نظرائي: من تراها قطعة المارشميللو التي أنمت فيّ هذا البوح، صوفيا لورين، أم الزمن المفتقد، أم…؟!