صالح القلاب
لم يكتف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بالإصرار على كل هذا الوجود الاحتلالي في أجزاء من ليبيا، الدولة العضو في الجامعة العربية وفي الأمم المتحدة وفي الهيئات الدولية كلها، وذلك على اعتبار أنها كانت محتلة من قبل الإمبراطورية العثمانية التي كانت قد انتهت نهاية مزرية والتي كان قد شطبها من الوجود وأخرج حتى اسمها من كتب التاريخ كلها، التي تدرس حتى الآن في الجامعات والمدارس التركية، القائد التركي الكبير حقاً مصطفى كمال (أتاتورك) الذي من المفترض أن كل الذين قد جاءوا بعده إلى الحكم ومواقع المسؤولية قد حافظوا على مكانته وإنجازاته ومن بينهم الرئيس الحالي إردوغان وذلك في حين أنه يبدو مرفوضاً من قبل غالبية الشعب التركي وأصبح حزبه يسير في آخر قافلة الأحزاب التركية.
وحقيقة أن داء العظمة قد دفع الرئيس إردوغان مؤخراً، أي قبل نحو أسبوع من الأيام، إلى دعوة أذربيجان «التركية» لتشاطر تركيا احتلالها لأجزاء من ليبيا، التي كان العقيد معمر القذافي قد أعطاها اسماً طويلاً هو: «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى»، على اعتبار أنه مثلها مثل معظم دول العالم العربي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية وحيث إن «باكو» لم يصدر عنها حتى كتابة هذا المقال، وليس حتى نشره، ما يشير إلى أنها لم تستجب إلى الرئيس التركي الذي ينطبق عليه ذلك المثل العربي القديم القائل: «أعطى من لا يملك إلى من لا يستحق!!».
وبالطبع فإن مصر، التي كانت قد تلقت اتصالات تقاربية من أنقرة، قد بادرت إلى الرد وعلى مستوى العلاقات بين الدول، ونية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي القيام بزيارة متوقعة إلى ليبيا وعلى رأس وفد كبير ومن مستويات عليا تعني بالنسبة للعديد من المراقبين أنها الرد الحاسم على تصريحات وأفعال الرئيس التركي، وحيث إن القاهرة لن تسمح بكل هذا الذي يصرح به ويفعله وإن هذا البلد العربي الذي تربطه علاقات أخوة تاريخية مع الشعب المصري لن يمسه أي سوء من أرض الكنانة ولا من شعبها الذي لا يمكن أن يسكت عن كل هذا الذي تقوم به تركيا الإردوغانية.
وهنا فإن الرئيس إردوغان، الذي بات يتصرف على أساس أنه وريث «أمجاد» الدولة العثمانية عندما كانت في ذروة تألقها السياسي والعسكري، قد أثبت أنه لا يعرف مصر ولا الشعب المصري ولا الرئيس السيسي عندما حاول التقرب من القاهرة وإقامة علاقات بينها وبين أنقرة وعلى أساس أن يصبح بإمكانه أن يفعل كل هذا الذي يفعله في هذا البلد العربي ليبيا الذي هو الأقرب لأرض الكنانة والذي تربط شعبه، الشعب الليبي، بشعب مصر علاقات تاريخية جعلتهما في حقيقة الأمر شعباً واحداً لا يمكن أن يسكت عن كل هذا الذي يقوم به الرئيس التركي الغارق في أحلامٍ «إمبراطورية» عفّى عليها الزمن ولا عودة لها على الإطلاق بعدما أصبحت نسياً منسياً.
والمؤكد وهذا واضحٌ، ما لا يدركه الرئيس إردوغان، هو أن مصر ستحاول معالجة كل هذه الأمور بالدبلوماسية الناعمة لكنها ستكون حاسمة وحازمة إذا بقي الرئيس التركي مصمماً على تحقيق طموحاته، وإنها قد تلجأ إذا دعت الضرورة إلى القوة وإلى جيشها العظيم الذي كان حرر سيناء كلها وانتزعها من أيدي الإسرائيليين وحرر قناة السويس المصرية من البريطانيين الذين كانوا قد ظنوا في لحظة تاريخية مريضة أنهم سيبقون في هذه المنطقة العربية إلى أبد الآبدين.
وهكذا فإنه على الرئيس إردوغان أن يفكر قبل أن يتمسك بمجازفته هذه، فالعثمانيون لم يتركوا أمجاداً عظيمة ليرثها، وأذربيجان التي يعتبرها دولة عثمانية أو تركية لا يمكن أن تقْدم على مغامرة كهذه المغامرة، ثم إن الأحزاب التركية لا يمكن أن تقدم على مغامرة كهذه المغامرة المكلفة وأيضاً، كما لا يمكن للقوى المعارضة في هذا البلد أن «تنجر» وراء الرئيس التركي ووراء طموحاته وذلك في حين أن الدول التي يظن أنه سيعتمد عليها ستتخلى عنه؛ إذ إن مصالحها مع أرض الكنانة ومع ليبيا والشعب الليبي ومع العرب كلهم، و»من المحيط إلى الخليج» أكثر كثيراً من مصالحها معه، وخصوصاً أن أوضاع تركيا في حقيقة الأمر ليست مريحة وأنها باتت تواجه تمرداً مسلحاً من قبل «أكرادها» الذين كانوا قد ذاقوا الأمرين على مدى سنوات طويلة.
إنه على الرئيس إردوغان، الذي يحلم باستعادة أمجاد العثمانيين واستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية عندما كانت في ذروة تألقها أن يدرك أن تركيا هذه التي يرفضه شعبها ويرفض مغامراته المدمرة والمكلفة غدت تواجه أوضاعاً في غاية الخطورة وأنها قد أرسلت قواتها إلى كردستان العراقية لتقضي على حزب العمال الكردستاني التركي الذي أذاقها الأمرين على مدى سنوات طويلة، لكن خيبتها كانت كبيرة عندما اضطرت إلى العودة إلى الأراضي التركية بدون أي إنجاز في هذا المجال ولو في الحدود الدنيا!!
وحقيقة، فإن غالبية الشعب التركي وبكل قواه وأحزابه المؤثرة يعتبر أن ما يفعله إردوغان مكلف جداً وأنه غير مقبول وأن مغامراته هذه إنْ عبر المتوسط نحو أفريقيا وإنْ نحو سوريا «القطر العربي السوري» وأيضاً وإنْ نحو بلاد الرافدين ستكون باهظة الثمن. ثم إن عليه أن يدرك أن عروبة لواء الإسكندرونة لم تتلاش في الوجدان العربي على مدى كل هذه السنوات الطويلة وأنه إذا كان العرب بصورة إجمالية يعانون في هذه المرحلة من ظروف إن هي ليست خطيرة جداً فإنها غير مريحة فإنهم كانوا قد مروا بمثلها لمرات متعددة لكنهم وفي الحالات كلها ما لبثوا أن استعادوا وحدتهم وتماسكهم وهكذا فإن الأيام قادمة ومقبلة وأنه على من لا يأخذ هذا بعين الاعتبار أن يهيئ نفسه لدفع الثمن غالياً وعلى غرار ما كان حدث ولمرات متعددة وكثيرة على مدى حقب التاريخ!!
ثم وكي لا يُفهم هذا كله على غير حقيقته فإنه لا بد من التأكيد على أن العرب بغالبيتهم لا بل إنهم كلهم يعتبرون أن الشعب التركي شعب شقيق وأنهم لا يتمنون لا له ولا لتركيا إلا الخير لكن المشكلة هنا تكمن في أن مغامراً مثل رجب طيب إردوغان يواصل فعل كل هذا الذي يفعله ويرفع الراية العثمانية فوق أجزاء من ليبيا، التي هي عربية وستبقى عربية، ويدعو حتى أذربيجان التي من المفترض أنها: «تكفيها همومها الكثيرة»، كما يقال، لتعْبر «المتوسط» نحو الغرب ولتعتدي على دولة شقيقة لا يمكن أن يتخلى عنها وعن شعبها العرب كلهم!!
ولذلك وفي النهاية، ولا نهاية في هذا المجال، فإنه على الرئيس إردوغان أن يدرك أن عبوره البحر المتوسط نحو دولة عربية رئيسية، وكل الدول العربية رئيسية وأساسية، هو مغامرة مكلفة سيكون ثمنها، إنْ قريباً وإنْ بعيداً، غالياً جداً وحيث إن ما يفعله الرئيس التركي لا يمكن السكوت عنه ومع الأخذ بعين الاعتبار ودائماً وأبداً أن لتركيا، هذه «الدولة الشقيقة» ولأهلها الأتراك «الأشقاء»، مصالح كثيرة في العالم العربي إن في أفريقيا أو في آسيا، وأن هذه المصالح لا بد من أن تتأثر كثيراً إنْ بقي الرئيس إردوغان يتصرف على أنه سلطان عثماني وأنه الوريث الشرعي للدولة العثمانية التي كانت قد انتهت نهاية مأساوية والتي كان مصطفى كمال (أتاتورك) قد شطبها وشطب تاريخها لحساب دولته التركية الحالية التي أرادها مواكبة لحركة التاريخ ولدول الغرب المتقدمة والحديثة.