بقلم
هاني الترك
By Hani Elturk OAM
ما زال أحد أيام الأربعاء من سنة 1964 يوماً مطبوعاً في مخيلتي ويعود الى الذاكرة دائماً:
المشهد: أستاذ الفلسفة في الجامعة يلقي في المدرج محاضرة والطلبة يصغون بآذان مسترخية.. فجأة يشق السكوت صوت رخيم ينطلق من طالب في مؤخرة المدرج يقول: كفانا أيها البروفيسور حديثاً عن الفلسفة ونظريات الفلسفة.. ماذا يفيدني منطق الفلاسفة والسفسطة.. أنظر إلى عيني.. في داخلي أنا الإنسان المتأرجح بين الحياة والموت.. العذاب يهدد كياني.. والألم يصفعني حيث أرى الأشباح تكلمني والأصوات في أعماقي تناديني.. وتستعبدني رغبة جنونية بتحطيم ذاتي إذ أنني أكره نفسي.. كم هي جراحي مبرحة.. وكأنني أشعر ان الله قد أوقع بي عقوبة لا أستطيع الهروب منها.. إنني أريد ان أرتاح وأهدأ.. فلسفتك هذه لا تفيد نفسي العليلة بمثقال ذرة.
إستوقف الأستاذ الطالب وطلب منه أن يجلس ساكتاً أو يغادر المحاضرة.. وقال له هذه محاضرة في الفلسفة وليست في الطب النفسي.
ان طبيعة الإنسان حينما يرى مريضاً يتعذب يتعاطف معه.. وهنا وقف طالب آخر هزيل الجسم أجش الصوت.. تتهدج الكلمات في حلقه من شدة التأثر.. وقال للبروفيسور والطلبة:
يا لهذا الرجل.. أتركوه يتكلم.. ليس أمامه سوى الكلام.. فربما وجد راحته وهدايته من وراء الكلمات.. يبدو واضحاً ان أعصابه متعبة ونفسه تحترق.
فرد البروفيسور: حالة مرضية.. إنها حالة مرضية وأنا لست طبيباً في الأمراض النفسية.
وهنا وقف الطالب المعتل ونطق بحكمة خرجت كالبركان المغلي من فمه وجهها للأستاذ والطلبة: إن كل فلسفة لا تخدم الإنسان وتسد حاجته الضرورية لا تساوي وزنها ورقاً.. توارى الطالب عن الأنظار وإختفى من المدرج.
شعرت بعد ذهابه ان الحرارة تلهب وجهي والغضب يسطع في نفسي.. فقد تمنيت له انه لو إستمر في حديثه ليخرج ألمه الى السطح.. فربما كان في ذلك راحة وهداية له.
إنتهت المحاضرة وذهبت أبحث عنه ورأيته في ساحة الجامعة مكسور النفس وحيداً متأملاً الطبيعة الكائنة أمامه.. حزيناً على كرامته التي أحس انها تمرغت في الوحل.. تقدمت منه في تردد وأعطيته سيجارة وقلت: إنني لا أعرف إسمك.. ولكن تستبد بي رغبة بتذكيرك انه حينما يحاط الإنسان بعدم الإمكان.. والطرق مسدودة من كل مكان.. لا يبقى أمامه إلا طول الاحتمال والإيمان.. فإسمح لي أن أقترح عليك إستشارة طبيب أمراض نفسية.
قال: لقد ذهبت الى واحد وطلب مني مبلغ 5 جنيهات عن كل جلسة وأنا بسيط الحال لا أساوي هذا المقدار.
قلت له: حسناً.. ليس امامنا إلا ان أستمع إليك.. فما رأيك في ان نختبر سوياً منهج فرويد للتحرير النفسي المشكوك فيه.. ولكن الحق انني كنت في قرارة نفسي في تلك الفترة من الزمن من المقتنعين بصحة المنهج الفرويدي.. وشعرت انها فرصة لا تعوّض لتطبيق معلوماتي التي إستقيتها من دراستي في نظرية العقل الباطن وتحكمه في العقل الواعي.. ويبدو ان زميلي المتألم طيب القلب وجرحه عميق ولا بد انه سيجد راحة في إخراج عذاباته للسطح.
وافق الزميل وبدأنا في العمل فوراً حيث إصطحبني الى بيته المعتم الضيق الذي يبعث عن السأم في النفس.. ولكن دوافعي كانت أقوى من سأم البيت.. وأخذت أستمع إليه.. لا يدري من أين يبدأ.. تتسابق المواضيع للخروج من باطنه.. وكانت كلها تدور حول فقره المدقع وقسوة الحياة وظلمها وتنكر أهله له ووحدته القاتلة.
وبعد حوالي ساعة ونصف فيما يشبه جلسة في التحليل النفسي وتمثيل درامي عنيف أصابه السأم وتوقف قائلاً: كفى.. إرحل عني.. إنني لست موضوعاً لبحوثك.. لقد مللتك.
غادرت بيته شاعراً بشيء من الراحة تدب في نفسه ونفسي.. ممتزجاً بالخوف الشديد منه وعليه.
مضت مدة طويلة لم أره فيها في الجامعة.. وطويت ذكراه من ضميري.. وفي يوم صادفته في الجامعة فرحاً وصافحني بحرارة وثقة وكأن جرحه العميق قد إندمل.. وأول جملة نطقها.. لقد شفيت.. صدقني إني شفيت.. إرتحت من هواجس أفكاري المريضة وخيالاتي المضطربة.
قلت له: هذا جميل.. فقال: ولكن الأجمل منه ان علاجي قد تم على يد شيخ متصّوف.. إنني أمارس الطقوس الدينية وكل يوم أصلي الفروض وأذهب الى الجامع وأتلو الآيات القرآنية.. لقد غسل إيماني بالدين آثامي وحرر روحي بتوليد حالة من الانفعال الإجلال نحو الخالق العظيم.. فإن الأصوات التي كنت أسمعها في باطني إنهزمت وهدأت تحت صوت الحق.. والإنفعالات المتصارعة والمحزنة أصبحت ضرباً من ضروب البهجة والفرحة.. والخيالات التي كانت تنتابني إتحدت في صورة الحب والخير.. وبإختصار عثرت على ذاتي الضائعة بأسلوب الزهد متطلعاً الى محاكاة الكمال.
بصراحة تامة إنني لم أصدقه انه قد إسترد عافيته بفعل الدين.. لأنني كنت متيقناً بأن طقوس الدين لا تشفي عليلاً بالأعصاب.. بل كنت أفسر ظواهر الحياة النفسية كلها من خلال المنهج الفرويدي الذي سلب عقلي وخلب فكري.. ولكن يجب ان أذكر ان ذلك الزميل قد حافظ على صحته النفسية حتى المدة التي تركته بها وهاجرت الى استراليا ولم أره منذ ذلك الحين.
إلا ان نظرتي لفرويد بعد ذلك قد تبدلت.. فالعلم المعاصر يقول ان القلق هو علة العلل لأعصاب الفرد.. ومعرض للوقوع به أي فرد.. فرغم عدم وجود سبب دقيق وتعريف علمي محدد يتفق عليه العلماء للمرض النفسي.. حيث ان الطب النفسي لم يزل فناً ولم يرتق بعد الى مرتبة العلم الدقيق.. إلا ان آخر المحاولات المكتشفة في هذا الحقل ان علاج المريض يتم أفضل ما يتم من بإندماج المريض في المجتمع.. فإن المجتمع هو البديل عن المصحة النفسية والباب نحو الصحة العصبية.. لأن المريض الذي يعزل في المصحة يفتقد حب الناس والسعادة التي يشاركها مع الآخرين.
وعملاً بهذه النظرية فقد ظهرت المؤسسات المتنوعة التي تنتمي الى مدارس مختلفة وتتفق على تدريب المريض بالتغلب على القلق والهروب من وطأة المشاكل والإسترخاء بتقوية الجهاز العصبي على مواجهة الأزمات والأمراض.. وممارسة العبادة عن طريق الصلاة وتطهير النفس والتصوف والرهبنة وزهد الحياة هي إحدى الطرق الفعّالة في قهر الأمراض.. مع التركيز ان إستعمال العقاقير الطبية له دور كبير في العلاج.. وكان فرويد قبل وفاته قد توقع تطوير العقاقير الطبية لمعالجة الأمراض النفسية.
وقد هزت نفسي صلوات خاصة لشفاء المرضى في الكنائس وكم تأثرت بالجو الخاشخ الذي يتم فيه الدعاء الى الخالق.. والعبادة التي تنقي إحساس المريض في تحريك الروح وتحقيق الإنسجام والمحبة بين الفرد والخالق.
لقد قرأت في كتاب علمي حول هذا الموضوع إذ تخرج من جسد الإنسان طاقة حارة كهربائية مغناطيسية تؤثر على الآخرين من حوله.. وهذه الطاقة عند البعض هي قوة للشفاء.. بواسطة الصلاة والإيمان تسلم بوجود قوة أعظم من الإنسان مغلقة على علم الإنسان هي قوة الحقيقة.. الله وراء كل الأشياء والمسيطر على جميع الظواهر النفسية. ففي رأيي ان الإيمان والعلاقة الشخصية مع الرب هي أساس شفاء النفس والروح والجسد.
الآن، بعد مرور45 عاماً على تلك الحادثة أتمنى لو أقابل ذلك الصديق لأقول له «لقد صدقتك الآن».