هناك علاقة قوية وحميمة بين الشعر والرسم، والا ما قال الرسام ليوناردو دافنشي «الرسم شعر يرى ولايسمع، والشعر رسم يسمع ولايرى». اي بمعنى كما يقول الناقد حاكم حداد «ان العلاقة بين الفن البصري والفن وثيقة جدا. فالرسام من خلال انجازاته التشكيلية، انما يحاول استنطاق وترجمة افكاره ورؤاه وجعلها حرة متجسدة على قماش اللوحة من خلال الالوان التي تشكلها فرشاته. في حين يفعل الشاعر من خلال قصائده الفعل نفسه. وهو يفجر كوامن حبه وفيض شاعريته، ومن خلال الصور المختزلة التي تبتدعها مخيلته، بعد ان يخلقها لنا عبر خيوط حسه». لذلك دائما يعبر النقاد عن مقولة باتت متداولة جدا مفادها ان الرسام يرسم افكاره بفرشاته، في حين ان الشاعر يرسم افكاره بالكلمات، وبالمحصلة انهما يلتقيان في التعبير وان اختلفت الاداة. لذلك لا نستغرب من ان الكثير من الشعراء يرسمون او يحبون الرسم، وليس اولهم او آخرهم الشاعرالكبير مظفر النواب. فالنواب نشأ في عائلة مثقفة تحب الشعر والرسم والموسيقى، لاسيما امه التي تتحدث باللغات العربية والانكليزية والفارسية.
ظهور الموهبة
وبانت موهبة النواب بالرسم منذ ان كان طالبا في الجامعة، فيقول معظم زملائه من الطلبة انه كان ملازما لمرسم الجامعة، الذي كان يديره الفنان الانطباعي حافظ الدروبي، بل انضم الى جماعة الانطباعيين واصبح واحدا ممن وقع على بيان التأسيس عام 1952 مع كل من: ضياء العزاوي وحافظ الدروبي وسعدي الكعبي وغازي السعودي وياسين شاكر وعلاء حسين بشير. وهذه المجموعة ورئيسها حافظ الدروبي اثرت كثيرا في النواب، لكنه ابتعد بطريقة تعبيره الانطباعية حيث اخذ يهتم بالفقراء والمسحوقين والاماكن التي تبتعد عن المدينة وجمالها.
وكان الدروبي من المعجبين برسوم وطريقة النواب بالتعبيرعن افكاره بالالوان. وقال عنه ذات مرة «أجد عنده قدرة عجيبة على استخدام الالوان من خلال الفرشاة في الرسم». وهذا القول اكدته الكاتبة المترجمة سهيلة داود سلمان، وهي زميلة النواب في الجامعة آنذاك، وكانت ايضا تتردد على المرسم نفسه. واضافت «ان النواب واحد من جماعة الانطباعيين بتأثير من معلمه الفنان حافظ الدروبي، وشارك في العديد من معارضها الجماعية الثمانية قبل ان تتوقف وينتشر اعضاؤها في ارض المعمورة».
ويقول احمد عثمان بكر في عام 1960 عن احد معارض الانطباعيَيْن الدروبي والنواب «ان الدروبي هو الابن البكر لهذا الشعب من دون شك، والنواب شقيقه الاصغر، وكان الرسم بالنسبة للنواب عالما حلميا لا يمكن التغاضي او الابتعاد عنه حتى في اصعب الظروف».
لوحات حالمة
وقد ترك النواب كثيرا من لوحاته الحالمة اضافة الى قصائده الجميلة الموحية في اماكن عدة عند بعض الاصدقاء. وقال الناقد التشكيلي الراحل عادل كامل عن لوحات مظفر النواب «ان هذه الوحدة بين الشعر والرسم، في تجربته الطويلة جاءت متطابقة وبعض مفاهيم الحداثة في التجربة الابداعية العربية المعاصرة. فهناك محاولة دائمة لجعل الصدق متوازنا والتكنيك اذ ان كلاهما يندمجان بخلق المشهد الفني بعناصره الكونية والذاتية على حد سواء».
وحتى في سجن الحلة حين حل فيه النواب معتقلا، كما يذكر صديقه عقيل عبدالكريم حبش، في كتابه «طريق الحرية» ان النواب في السجن كانت لديه غرفة خاصة يمارس فيها الرسم ويكتب قصائده ايضا.
صور شعرية تشكيلية
ويشير حاكم الحداد في كتابه مظفر النواب: ان هذه الرواية يؤكدها الفنان يوسف العاني في رسالة شخصية له ويضيف «ان العاني اسس مسرحا في المخيم الكشفي الحكومي، الذي جمع المفصولين لاسباب سياسية من وظائفهم في منطقة السعدية، وكان النواب فيه ايضا وقام بتأسيس مرسم كما اسس العاني مسرحا». وكان النواب يمارس الرسم في هذا المرسم كثيرا ويكاد لا يفارقه ابدا، وياما خرجت لوحات جميلة بريشته. حتى قصائده في تلك الفترة تراها كأنها لوحات رسمت بالكلمات نتيجة رؤياه الادبية والفنية. حتى اشعاره العامية كانت تمتلك صورا تشكيلية معبرة قد لاتجدها عند غيره. او كما يقول الحداد في كتابه «مظفر النواب الكلمة المنغمة.. حياة وابداع» الصادر عن مركز كلاويز في عام2020 «ان ما فعله النواب يدخل في باب التعبيرية التأثيرية التي سادت الشعر العربي الحديث منذ الستينيات». ويذكر عدة أمثلة على تداخل الرسم والشعر لدى النواب تفصح عن الصور والالوان التي يتعامل بها مع القصيدة، وكأنها لوحة تشكيلية يرسمها بالكلمات.