علاء مهدي – سيدني

إزاء التأثير الكبير الذي تركه في نفسي عنوان الكتاب الجديد للفنان (الترميذا) يوهانا نشمي، وجدت نفسي أختاره أيضاً عنواناً لهذه المتابعة عن حفل توقيعه الذي أقيم في مركز گاسولا باور هاوس التابع لبلدية ضاحية ليفربول بغرب مدينة سيدني ، مساء السبت في الثاني والعشرين من شهر أيار / مايو 2021، وحضره جمع غفير من المسؤولين الحكوميين على رأسهم عمدة ضاحية ليفربول ونواب برلمانيون وأعضاء مجالس البلديات ومسؤولون لمنظمات مجتمع مدني وجمع غفير من الإعلاميين والفنانين والكتاب وأغلب الذين ساهموا في تنفيذ مشروع الكتاب من مثقفين وأدباء وشخصيات عامة ، وبنات وأبناء الجاليتين العراقية والعربية وعدد متميز من أتباع الديانة المندائية التي ينتمي لها مؤلف الكتاب.

ألقيت في الحفل الكثير من الكلمات التي أشادت بدور الكاتب والأديب والفنان يوهانا نشمي، و اختتمت بكلمة متميزة له عرض من خلالها فكرة الكتاب ، كيف نشأت والمراحل التي مرت بها. تميزت الإحتفالية بكرم الضيافة العراقية الأصيلة ، حيث تجمع الحضور حول موائد عامرة بأطيب المأكولات العراقية والعربية بضمنها الحلويات. مما تجدر الإشارة له أن ضاحية ليفربول بمدينة سدني الجميلة تعتبر مركزاً لأكبر التجمعات المندائية في العالم، حتى يفوق عددهم فيها أعداد المتبقين منهم في موطنهم الأم جنوب العراق وإيران.

بدأت فكرة هذا المشروع عند عودة الفنان يوهانا نشمي من سفرة طويلة خارج أستراليا في عام 2016، و قد تبلورت في عام 2018 مع بداية تنظيمه ورشاً للتدريب على الأعمال الخزفية ، أدارها بعناية فائقة وهو الفنان الخبير والمتميز في مجال هذه الأعمال ، فتحولت إلى مشروع فني مجتمعي يشجع المهاجرين على سرد قصصهم ورحلاتهم والمراحل التي مروا بها وبالتالي صياغتها بشكل فني وثقافي متميز ، ثم تم ربطها بفكرة الألواح الطينية بقصد الإشارة لأهمية التعبير بحرية وإبراز الهوية والإندماج بسهولة في المجتمعات الثقافية والحضارية المختلفة في المنطقة.

وقد اوضح الاكاديمي روي مارچنت (وهو صديق الفنان وعملوا سوية على عدة مشاريع فنية) بان 100 روح 100 قصة 100 لوح مشروعٌ ذو صلة عميقة بالسرد القصصي. فالصلصال مادة فنية استُخدِمت منذ القِدم، وهو يُستخرج ويُعالَج ويُعمَل باليد ثم يُفخَر ليقاوم الزمن. هذا المشروع سوف يواصل رنين الخزف لينقل الأفكار المفعَمة بالحيوية وسيحمل عند تكامله شبهاً غريباً بالأدوات والمواد التي سبق وأن صنعها الانسان والتي اكتُشِفت مؤخراً. لكنْ أيكون هذا

العمل أقلَّ من مِلكٍ مضمون وثمين؟ ليس الهدف من 100 روح 100 قصة 100 لوح أن يكون برهاناً فعلياً على حسن التصرف باستثمارٍ مؤسساتي، فإنَّ فنون الكوميُنِتي هي تطويرٌ للكوميُنتي وعلى أسسٍ متينة مما يتوفر فعلاً في الكوميُنِتي من قدرات وتتحقق من خلال التأليف الجماعي والمِلكية الجماعية. سوف يذهب الناس لرؤية هذا العمل، بعضُهم بسابق تصميم والآخرون سيشاهدونه بطريق الصدفة، لكن الجميع سوف يتفاعلون مع العمل الفني وبذا يُصبِح الفن توظيفاً لصنع المكان.

الإنسان كائن تعبيري

يقول منفذ المشروع الفنان يوهانا نشمي في مقدمة الكتاب التي بعثها لي باللغة العربية : ” ان علاقة الانسان بالفن علاقة روحية عميقة، فالإنسان كائن “تعبيري”. هذه العلاقة هي أحد المكونات الرئيسية لوجودنا كبشر، وقد يتم التعبير عن هذه العلاقة باشكالٍ والوانٍ مختلفة.في تراثنا المندائي الرافديني ومن خلال تجارب اجدادنا وجداتنا الروحية، نُقِل لنا بأن الانسان هو ذلك العالم “الصغير” وان الحياة برمتها هي ذلك العالم “الكبير”، وما بين هذين العالمين والعلاقة ما بينهما تبدأ “الحياة” بكافة تفاصيلها ومفاهيمها! ان الادب المندائي زاخر بالرسومات التعبيرية الرمزية التي تحاكي هذه المفاهيم.لا أقصد من هذا “قولبة” التجربة الانسانية للإنسان الفرد او الجماعة. فالتجربة الانسانية الروحية مستمرة وبدون أي توقف. وانما اردت ان اعرّج على جانب مهم من الثقافة الجماعية والتي لها تأثيرها على الفرد.”

هنا يبَّرز الفنان نشمي الدور الريادي لعلاقة الإنسان الروحية بالفن منذ أقدم العصور وبالتالي فإن توظيف الإنسان للادوات والوسائل الفنية هو بمثابة إيجاد وسيلة للتعبير عن الأمور الحياتية وهذا ما وجدناه تأريخياً في الرسومات التعبيرية الرمزية لكثير من الحضارات والثقافات القديمة ومنها المندائية.

البيئة ” غير المسالمة “

ينقلنا المؤلف لمرحلة متقدمة من رحلة تنفيذ مشروع الكتاب فيذكر بأن المشاركين في المشروع لم يتمكنوا ” من التعبير عن أنفسهم فحسب، بل أيضاً التواصل بطريقة هادفة مع ثقافتهم وتراثهم. فبسبب قِدَم الثقافة المندائية وايضا بسبب البيئة “غير المسالمة” التي عاشوا في كنفها سابقاً، غالباً ما يشعر المندائيون بأنهم لا يُنظر إليهم على أنهم أناس حقيقيون لديهم ثقافة حية أو باعتبارهم مجتمعاً إنسانياً حديثاً، ولكن ككائن أثري او تحفة نادرة مكانها المتحف. أضف الى ذلك أثر الحروب والاضطهاد والتشتت الذي عانى منه المندائيون الحاليون واجدادهم على مر العصور. “

أعتقد أن لذكر ” البيئة غير المسالمة ” التي عاشها المندائيون سابقاً أهمية بالغة في رسم صورة واقعية للظروف والتأثيرات التي صقلت شخصياتهم الحياتية الحالية وربما كانت تلك الظروف دافعاً قوياً وحقيقياً للشعور بالظلم والإجحاف وبالتالي النهوض إيجابياً ثقافياً وفنياً وحياتياً حيث صاحبهم ذلك مع هجراتهم لخارج أرض الأجداد.

ويسترسل فيقول : ” إنها قصصنا وهذا ما نشعر به ونفكر به كبشر في مرحلة زمنية معينة، وسوف تتغير قصصنا حتماً بمرور الوقت. أنا من أولئك الذين يؤمنون بضرورة أن يكون الفن عارياً في قول الحقيقة. بدون القصص، نفقد وجهات النظر حول ما يهم في هذه الحياة. هذه هي الطريقة التي نفهم بها العالم وأنفسنا”.

لماذا قررنا استخدام الطين؟

ويشير المؤلف إلى علاقة المندائيين المادية والروحية بالبيئة الطبيعية وعلى وجه الخصوص ، الطين ، والنباتات والماء والقصب ، حيث تبرز أهمية هذه العناصر ” في الطقوس الدينية وتستخدم في صنع الادوات التي تستعمل في الطقوس الدينية، وهذا ليس غريباً، خاصة وأنهم من سكنة وادي الرافدين منذ زمن طويل، حيث الطين من أكثر المواد شيوعاً بصورة عامة، وفي العمل الفني خاصة. فقد استُخدِم الطين في صناعة الفخار والمنازل والمباني الأثرية ولتدوين التأريخ من خلال الألواح الطينية الشهيرة”.

“نحن هنا الان ولكننا كنا هناك أيضاً”

وعن الفرق بين هنا وهناك ، ومن خلال قصص المشاركين في المشروع يذكر المؤلف ” عندما تأتي لأول مرة إلى أستراليا كلاجئ، فإنك تمر أولاً بفترة “شهر عسل” مليئة بالإثارة والأمل. ثم يضربك الواقع بشدة. يجلب الواقع المزيد من الأسئلة والاستكشافات نحو وجودك وكل ما اكتسبته لقرون كمجموعة بشرية من خلال الثقافة (أو الثقافات) المشتركة. “هنا” و “هناك” مختلفان جداً في الشكل واللون، أكثر مما نتخيل!. ثمة شيءٌ ما بين “هنا” و”هناك”، مساحة فارغة، تنتظر منك أن تكون مبدعاً وتعبر من “هناك” التي أحضرتها معك بكل فخرها وتحيزاتها إلى “هنا” التي فرضت عليك مجموعة جديدة من إعتبارات الكبرياء والأحكام المسبقة” .

إشارة المؤلف للفرق بين ” هنا” و ” هناك” إنما قصد بها توجيه رسالة للمجموعة البشرية التي يقصدها ، فحاول في معرض حديثه الإيحاء بأن المساحة الفارغة بين ” هنا ” و “هناك” تنتظر الإبداع بشكله الإيجابي متقصداً عدم الإشارة لإحتمالية وجود نتائج سلبية تعكس

تأثير الإنتقال بين ثقافتين مختلفتين بكل المجالات وهو إحتمال وارد لكن التحدي المستقبلي للمجموعة لايحتمل سوى النجاحات الإيجابية.

وعلق الفنان والكاتب يحيى الشيخ على المشروع برسالة للفنان يوهانا قائلا: “على السطوح المربعة المائة تتكشف أمامنا اهم الحقائق التي تشغل ذهن المندائي: أهم العناصر الأساسية في حياته وفكرته عن الحياة: النخلة، بيت الطين، الطيور، النهر، الكواكب ومعادلات وجودية تحرسها كائنات نورانية. هذا ليس نموذج للعقل والفكر المندائي وحسب، بل للذوق الجمالي الأسطوري المتوارث. المفهوم الذي يوازي ما دأب عليه الفنان السومري من قبل، وما كان يشغله في التعبير عن حياته وعلاقته بالعالم وبالآلهة التي يؤمن بها. بكل بساطة ليس هناك أكثر أهمية من البيت والطبيعة والمياه والطيور، غير الحياة ذاتها”

تتميّز القطع الجدارية بالرموز الموغلة بالقدم، وما تحمله من اختزال للأفكار. كأنها برقيات مشفرة قادمة من عالم غابر بعيد من اعماق التاريخ، نُقشت ببدائية منحتها شهادة صادقة؛ شهادة لأحاسيس عفوية نقية لا تخلو من التأكيد على النزعة التعبيرية بصيغتها الحديثة. وجوه، بيوت، اشجار وانهار وكواكب، تتضمن في نقشها الغائر لغة حسية طاغية الوضوح والجمال.

ومن الجدير بالذكر بان الفنان نشمي يقوم حاليا بالتعاون مع المرشدة الاجتماعية والناشطة العراقية السيدة سناء الاحمر بمشروع مماثل ولكن لجميع الجاليات العربية والاجنبية في منطقة مكارثر ومع مركز كامبلتاون للفنون.

بكلمته المتميزة التي ألقاها، حرص الفنان يوهانا نشمي ، على تقديم شكره وتقديره ليس للحضور فقط ولا لمن ساهم في نجاح المشروع والأمسية وكذلك الداعمين للنشاط وللموسيقيين ومقدمة الحفل وإدارة القاعة ، لكنه لم ينسَ عائلته ، والدته ووالده . . . وزوجته الجميلة، التي صعدت إلى المسرح تحمل باقة ورد كبيرة ، فيما يبدو أنها كانت مفاجأة الإحتفالية ، حيث اِرتجلت كلمة تهئنة لزوجها بهذه المناسبة متمنية له مزيداً من النجاحات ، معربة عن سعادتها بالمشروع التي هي من ضمن المساهمين الفعالين فيه .

بدوري أهنئ الفنان المبدع (الترميذا) يوهانا نشمي على هذا الإنجاز الكبير الذي يعتبر

إضافة نوعية لرصيد المؤلفات الثقافية والأدبية والفنية والتأريخية للعراقيين عامة ولأتباع الديانة المندائية خاصة.