بقلم هاني الترك
By Hani Elturk OAM
في تقرير صدر الأسبوع الماضي يشكو أرباب العمل.. خصوصاً المطاعم والمزارع والمصانع من عدم قدرتهم على العثور على عمال.. لأن بعضهم كسالى.. ولا يريد العمل وإليكم هذه القصة من المجتمع من أجل المعرفة والعلم:
فُتحت الجلسة في المحكمة لترى الزوج واقفاً مكسور الوجدان.. محدقاً بعينيه نحو منصة القضاء.. غير مصدق أن زوجته الوفية هي صاحبة الدعوى ضده.
– القاضي:
أيتها السيدة ما مضمون الشكوى ضد زوجك؟
– السيدة:
يا حضرة القاضي إن القاعدة في شعوري كانت دائماً هيامي بزوجي حباً حتى العبادة.. وقصتي بعد هجرتي معه الى هذه البلاد انه عمل في المصنع ليكسب رزقه.. وكان أباً صالحاً وأباً طيباً.. ولكن لست أدري ما الذي أصيبت به نفسه منذ مدة.. حتى إعوجت مُثُله وأصبح أسير الكسل.. تقاعس عن العمل مدعياً ان هناك عطلاً في ظهره يمنعه عن العمل.. رفع قضية ضد شركة التأمين مطالباً بتعويض مالي.. كذب ولفق الأقوال متوهماً انه بخداع القضاء سيحصل على المال غير المشروع.
غير ان حلمه سقط بخسارته للقضية.. وتبخرت آخر نقطة سعادة تخيّم على البيت.. طيلة هذه الفترة يا حضرة القاضي لم يشاركني في العمل سواء داخل البيت أو خارجه.. وأنا مسحوقة نفساً وجسداً تحت وطأة العمل ومستَغَّلة إستغلالاً إنسانياً فظيعاً.. إن عملي غير معترف به ضمن الاعمال في نظره.. في حين أني أعمل من أول النهار الى منتصف الليل.. وما يؤلمني أكثر هو إهمالي مع أطفالي واضعاً نفسه تحت تصرف الجمعيات والنوادي مستهلكاً طاقته في الكلام الفارغ.
إنني بذلت من طاقتي النفسية والجسمانية كل ما أملك لعلاج الأمور.. وقدمت جميع إلتزاماتي كزوجة وأم.. ورغم ذلك لا أتمتع بحقوقي التي يتمتع بها هو.. وقد حرمني من حريتي الشخصية مع انه يمارس حريته داخل البيت وخارجه في محيط الأصدقاء والجمعيات.. انه يحيط نفسه بهالة من الفراغ والخمول بغير عمل منتج.. والرجولة تقتضي من الرجل ان يكون قادراً على إعالة العائلة والاعتناء بها.. وأنا إذ أقبل العمل والخدمة داخل البيت وخارجه ليس لمجرد أني أنثى.. فحقوق المرأة متساوية مع الرجل في هذا المجتمع.. ولكن لانه زوجي وأب أطفالي.. والخلاصة اني أفّضل الطلاق على الحياة معه بهذا الأسلوب رغم ان حبه يسيطر على قلبي وعقلي.
صُدم الزوج لما سمعته أذناه وصُعق بأن زوجته المخلصة قد غدرته ونزعت القناع عن شخصيتها الحقيقية.. وتركته عارياً أمام منصة القضاء.. حول بنظره الى القاضي حاملاً في عينيه متاعب الدنيا
– وقال:
يا حضرة القاضي: ينبغي ان نسلم بالحقيقة أني وقعت في خطأ جسيم حينما إدعيت كذباً بوجع في ظهري وفقدت مورد رزقي.. ولكن يجب أن أجاهر بالحقيقة أيضاً أني إستيقظت من غفوتي وأحاول من جديد ان أكون مواطناً صالحاً.. فإني أبحث عن عمل.. وأنا أفهم الآن انه ليس الهدف الوحيد من العمل في حياة الانسان هو الحصول على القوت الضروري فحسب.. ولكن العاطل بغير عمل يفقد إنسانيته وكرامته على السواء.. إني محروم من شرف الإنتاج وليس في حوزتي مهنة.. ولا أتقن الإنكليزية وصعب علي العثور على عمل.. والواقع إني واقع في أزمة شديدة وعجز وإفلاس.. كل ذلك إنعكس على طبيعة علاقتي بزوجتي.. ويجب أن أذكر المحكمة الموقرة أن في العرف العربي على المرأة الطاعة والخضوع لزوجها.. وموقفي أني لا أود الطلاق وأطلب منها مراجعة قرارها.
لقد أدرك القاضي ان الرجل لا يزال يعيش بعيداً عن مبادئ المجتمع الجديد الذي إنتقل إليه.. والتي أهم مقوماته المساواة بين الرجل والمرأة.. كما أدرك القاضي بذكاء ان الزوج في حاجة الى درس بالانخراط والتطبيع والتأقلم بالمجتمع.. فلعله يستيقظ من نومه.. وينقذ بذلك عائلته من الانهيار.
* وقال موجها الكلام الى الزوجين:
لقد عثرت على حل.. وجدت المفتاح للباب المغلق الذي وصلتما إليه.. ولكن قبلها أود أن أذكر ان التحرر المنشود والتساوي والتعلم لا يتم إلا بالممارسة والتجربة.. ومن هنا قررت المحكمة الاقتراح عليكما بالعودة الى الحياة الزوجية تحت شرط واحد.. هو أن يُحكم على الزوج بالصمت أي عدم الكلام لمدة عام.. إنها تجربة تحت الامتحان لا أريد التنبؤ بنتائجها قبل الأوان.. وهذا بديل عن الطلاق إذا إتفقتما عليه كحل وسط.
وافقت الزوجة متعلقة بأهداب أي حل قد يكون أملاً في الإصلاح مع الإحتفاظ بزوجها.. إلا ان الزوج تردد بالقبول وتوسل قائلاً:
* يا حضرة القاضي إن العدالة ليست عادلة.. صحيح اني لا أريد الطلاق ولكن الحكم بصمتي هو حكم قاسٍ وربما إذ قبلته فيه إعيائي وهدم لحياتي وتحطيم إنسانيتي.
ولكن سرعان ما أذعن الزوج لحكم القاضي.. فهو مذنب.. وهذه هي عقوبته المخفضة.. بأن يكون إنسان مقطوع اللسان لمدة من الزمان.. وعلى أي حال هي عقوبة أقل تعاسة من الطلاق.
هنا طلب القاضي تحويل الزوج الى الطبيب المختص ليُسكت صوته لمدة عام بطريقة التنويم المغناطيسي.. وبالفعل تم ما أمرت به المحكمة ورجع الرجل الى بيته صامتاً لا يتكلم.. فهو الآن لا يستطيع الاجابة ويضطر للإصغاء.. وإنطلقت زوجته تفيض في حديث لا نهاية له.. وكأن الجدار الذي فصلها عن زوجها في الماضي قد تصدع وتهدم.
* ووضعت يديها بيدة قائلة له:
ثق تماماً يا زوجي الحبيب إني أحبك فوق كل تصور.. ولم أقم بما قمت به من أجل إحتقارك وكسر كبريائك.. إني منك وأنت مني.. وكل ما في الأمر أني أحاول تقريب المسافة بيننا.. وكانت هذه هي الطريقة التي إرتآها القاضي. بدأ الرجل يمارس حياته الجديدة.. فالصمت الآن يلازمه ولا يستطيع في مشاركة الحديث أبداً.. بل الأصح انه ليس في مقدوره إقحام نفسه في أي حديث كما كان يفعل في الماضي.. فتارةً يستأثر به الوجوم المقفهر وتارة أخرى تحتويه الموجة الرهيبة من التفكير التي يسبح فيها الصوفي والأيام تمر وهو يتغير.. فبعد سقوط حقه في الكلام أصبح مجبراً على إستعمال قواه وحواسه المتبقية في الوصول الى باطن الأشياء.. الرؤية والملاحظة والإرهاف والتمعن والتقصي والحركة.. حقاً انه أحياناً كان يشعر بالإختناق حيث يريد أن يتكلم ويفرغ ما في جوفه ليستريح ويوافق على الطلاق.. ولكنه في أغلب الأحيان كانت تصيبه موجة التعقل.. الطاقة الجارية في نفسه التي تئن في الخروج الى حيز الوجود تراها قد تحولت الى تأمل وحركة.
إنطلق مع مرور الأيام يشغل نفسه بأعمال البيت مع زوجته يرعى أطفاله ويصب عليهم حنانه الصامت.. بل ذهب الى المدرسة لتعلم الإنكليزية وهو صامت.. نعم صامت ولم تعد نفسه تتلذذ بأحاديث الكلام الفارغ.. انه أصبح يصغي وأشد ما يصغي.. ويفرق بين الكلام الفارغ غير المثمر.. أي الكلام لمجرد الكلام الذي يتقنه جزء كبير من معشر الناس وبين الكلام المليان المصحوب بالبناء.
لا عجب انه في صمت رهيب وفي تفكيره أصبح يراجع حساباته القديمة.. كان يفكر بصوت عال في أعماق نفسه.. يا ليتني تعلمت الصمت في الصغر لكنت قد أدركت قيمة الكلام والعمل في الكبر.
إنتهت المدة المحددة لصمته وإصطحب زوجته الى الطبيب لإطلاق لسانه مرة أخرى.. انه يكاد يطير من البهجة والفرح.. وحلمه بفك عقدة لسانه قد إقترب.. فكلها لحظات ويصبح الشخص الجديد.. الشخص الذي يعرف متى ينصت وكيف ومتى يتكلم وماذا يعمل. وجاءت اللحظة الكبرى وأطلق الطبيب شخصيته الوليدة من أعماقه ليتكلم ونطق الرجل بالكلمة الأولى لزوجته كلمة لم تسمعها منه طيلة حياتها معه: «أحبك» وعانقها وقبلها وضمها الى صدره إستطرد قائلاً:
* لقد إنتهت التجربة وعثرت على طريقي وسوف أكتب من الآن على صدري بالعربية الى محبي الكلام من أهل الجالية.. جملة واحدة ذهبية.. جملة لن أنطق بها إليهم: «إن البشرية لم تتقدم بالقول الصاخب بل بالعمل الصامت».