قرأت مؤخراً خبراً قد يكون عادياً عن الجريمة المنظمة في روسيا.. ولكنه في الواقع ذات مدلولات هامة جداً عن النفس البشرية.. أنعش ذاكرتي في علم النفس التحليلي الذي طالما سحرني وأخلبني منذ نعومة أظافري، حتى أنه تنطبق نظريته على عالمنا المعاصر اليوم.
يقول الخبر أن بعض كبار مجرمي المافيا في روسيا الذين جمعوا الأموال الطائلة ويبددونها بطريقة فحشاء أصبحوا يعانون من الانحراف النفسي.. وذلك لولعهم بحب المادة وهدرها مما أصابهم بالملل واليأس من حياة الجريمة.. والخوف المستمر من الاغتيال برصاصة من مجرم.. أو شبح القبوع خلف القضبان الحديدية في السجن مدى الحياة.
التجأ هؤلاء المجرمون العتيدون إلى محلل نفساني.. فقد كانت ممارسة التحليل النفسي ممنوعة في روسيا قبل انهيار نظام الاتحاد السوفياتي.. وذلك تذرّعاً بأنه ترف نفسي ورخاء مالي يتمتع الأثرياء به تحت ظل النظام الرأسمالي.. وقد قوّم التحليل النفسي سلوكهم حتى اتجه بعضهم إلى الحياة الشريفة وكسب الرزق المشروع والحلال.. وبدأ يتعلم البعض الآخر في المدارس والجامعات ونبذوا حياة الجريمة.
أرجع هذا الخبر ذاكرتي بعقارب الساعة إلى خمسين عاماً مضت حينما كنت طالباً في جامعة عين شمس في القاهرة.. إذ قال لنا أستاذي الراحل البروفسور مصطفى زيوار الذي يعتبر مرجعاً عالمياً في مدرسة التحليل النفسي.. قال لنا آنذاك أنه كان يعالج واحداً من أثرياء مصر من عقدة نفسية مستعصية.. فكان ذلك الثري يسير بحكم العقدة في طريق ملتوٍ طويل يمتد من منزله إلى عمله.. ولا يركب السيارة والذي قد يستغرق ساعتين من الزمن مع أن الطريق المستقيم لا يستغرق أكثر من دقيقتين معدودتين سيراً على الأقدام.. وكان لك الثري لا يسلم على أحد ولا يقبل أحداً تخوفاً من أن يلتقط عدوى مرض ما.. فقد كان دقيقاً جداً في أمور حياته إلى درجة الوسواس القهري.. وكانت تلك العقدة تؤرقه كثيراً وتستنزف جهده وتستغرق وقته.
انتقل بعد ذلك البروفسور زيولر إلى باريس ليشغل منصب رئيس قسم الدراسات العليا في التحليل النفسي في جامعة السوربون.. وأمضى هناك في المنصب خمس سنوات رجع بعدها إلى مصر.. التقى البروفسور زيوار عن طريق الصدفة ذلك الشخص الثري وفوجى بأنه يعانقه ويقبله ويسلم عليه بحرارة.. دعاه البروفسور زيوار إلى عيادته.. وبعد جلسة نفسية تبين أنه قد شفي من الوسواس القهري بعد أن أمم ثروته الرئيس الراحل عبد الناصر.. وكان دلك الشخص يتلقى العلاج النفسي عند طبيب نفساني آخر.. فقال لنا وقتها البروفسور زيوار: »كانت توجد علاقة لا شعورية مستحكمة بين الثروة المالية التي يتعلق بها ذلك الشخص الثري وبين سلوكه القاهري غير السوي«.
وقرأت حديثاً قصة المخرج والممثل العالمي وودي ألن الذي أنتج أفلاماً ناجحة جداً كان يستمد نسيجها من جلسات التحليل النفسي.. فهو أقر أنه كان يتردد على محلل نفسي منذ حوالي ثلاثين عاماً.. ويجد الراحة النفسية بالتحدث إلى المحلل بطريقة منتظمة.. فكان ألن يتغلغل في أغوار نفسه ويستخرج أفكاراً أدبية وفنية لأفلامه من اللا شعور.
وأعترف أنني أنا نفسي كنت أتردد على صديقة محللة نفسانية منذ عدة سنوات.. أتجاذب معها الحديث في جلسات حول قضايا شخصية جداً وقد تتعلق أحيانا بقضايا عامة أيضاً.. فيتوغل معها في أعماق نفسه.. منعشاً ذاكرة اللاوعي موقظاً التجارب المتراكمة عبر السنوات لتخرج إلى سطح العقل الواعي.. ويجب أن أسلم أنني كنت أجد في ذلك لذة وجدانية عميقة وراحة ذهنية كبيرة.. إن أقرب شيء الى الإنسان وهي نفسه هي أبعد شيء عنه في ذات الوقت.. فإن لمس الذات هو جوهري في معرفتها ومعرفة الآخرين.
لقد اكتشف العالم الفذ سيغموند فرويد عالم اللاشعور – أي عالم اللاوعي – في معرض علاجه للأمراض النفسية وتبين له بعد ذلك غزارة اللاشعور الذي تختزن فيه التجارب البشرية والشخصية المتداخلة مع بعضها بشكل وثيق وتسهم في عملية الإبداع الفني والأدبي.
كان فرويد هو الذي تطرق إلى موضوع الأحلام وأول عالم اكتشف أنه انطلاق العقل الباطن أثناء النوم من قيود العقل الواعي الذي يسيطر على الإنسان أثناء اليقظة.. لذا كان فرويد أثناء ممارسته التحليل النفسي يتجه إلى تفسير الأحلام للشخص الذي يعالجه مستخدماً منهج التداعي الحرّ الطليق.. وقال فرويد جملته الشهيرة: أن الحلم هو جنون الليل والجنون هو حلم النهار والليل.. أي أنه أثناء الحلم يتدفق اللاشعور ويقتحم الشعور ومن ثم كلنا في الليل مجانين.
فرغم أنه يتم علاج الأمراض النفسية والعقلية حالياً عن طريق العقاقير الطبية.. وهو أهم اكتشاف في علم الطب النفسي في القرن العشرين.. إلا أنه تظل مدرسة التحليل النفسي التي أسسها فرويد.. والتي تستخدم منهج التداعي الحرّ الطليق هي الأساس لفهم الكثير في عالم اللاشعور.
التحليل النفسي ليس ترفاً عقلياً كما يظن البعض.. ولكنه طريق فعّال نحو فهم النفس واستخراج العقد المستعصية والعواطف الدفينة والأفكار الإبداعية من أغوار اللاوعي.. وقال أبو الفلاسفة سقراط منذ القدم: «اعرف نفسك أولاً».
—————————-