كاظم حسوني –
لم يصلنا من الادب الروسي السوفيتي الا الادب الممهور بختم مؤسسة الرقابة الحكومية، رغم الاعمال الابداعية الاصيلة التي قرأناها والتي تناولت في الغالب احداث الحرب العالمية الثانية ابان الحقبة السوفيتية، لكن ثمة اعمالا ادبية ارخت بمصداقية كبيرة اعوام الحكم الستاليني وظلت مغيبة لعهود طويلة، خاصة خلال الفترة التي عرفت في التاريخ باعوام الارهاب العظيم من (1937) وما تلاها حيث قضي على (5 – 7) ملايين انسان في معسكرات سيبيريا ومعتقلاتها، ومن بين المعتقلين اعداد كبيرة من الادباء الذين كتبوا عن اهوال تلك السجون من بينهم الروائيون سولجنستين وبوكوفسكي وغاميلوف زوج الشاعرة الشهيرة انا آخماتوفا، وفالارم شالاموف الذي امضى قرابة عقدين من الزمن في معتقل كوليما، وكان قد اعتقل وهو في العشرين من عمره وبقي يصارع الزمهرير والتجويع والاذلال، وعندما اعيد اعتباره مع كثيرين غيره من قبل خروشوف عام 1956 لم تجرؤ زوجته على استقباله في البيت ولو ليلة واحدة بعد خروجه من المعتقل، حيث كانت تخاف خرق «نظام الاقامة» فكان عليه ان يبحث عن مكان يبيت فيه حتى الصباح التالي، فاتجه الى احدى القرى، ومن هناك كتب لها رسالة الانفصال، اما ابنته الوحيدة (لينا) فقد تخلت عن ابيها الخائن، حين كان التخلي عن الاهل دارجا كمعظم ابناء جيلها الذين بقوا بلا اباء، حين اختفى الاباء في الليالي وصاروا اعداء للشعب!
صور الرعب
فالارم شالاموف مؤلف كتاب «حكايات كوليما» الشهير الذي رسم فيه صور رعب معسكرات الاعتقال التي ذهب ضحيتها الملايين من الناس، يقول عنها انها ليست من ابتكار خيالي، لكن هذا بعض ما عشته وعرفته، فهو (اي شالاموف) وفقا للكاتب منذر حلوم مترجم قصصه، كان واحدا ممن حشروا في ذلك العالم حيث ينسلخ الانسان الذي لايخطفه الموت الى كائن بري متوحش، حين تهجره اماله واحلامه، وتبقى غريزة رفض الموت الشيء الوحيد الذي يربطه بالحياة، شالاموف القادم من الجحيم انتج «حكايات كوليما» كواقع معاش ومؤكد، انتج ادبا يخلو من الحقد وهنا تكمن لمحة عبقريته وخصوصيته، رغم فظاعة ظروف الحياة التي عاشها ووحشيتها، حيث نجح شالاموف بتحقيق المعادلة الصعبة بتعبير منذر حلوم ـ الوجود في قلب النار والحديث عن جحيمها من دون ان يزرع فينا الحقد على مضرميها ومؤججيها، وجاءت كتاباته باردة من قلب الجحيم، فهو ليس من الكتاب الذين يبثون الرعب واليأس في نفوس الناس ويجردونهم من ايمانهم بقدراتهم على المواجهة والرفض، «حكايات كوليما» هي عبارة عن لوحات وأحداث احكم اخراجها المؤلف، وقد عدها النقاد من اهم ما كتب عن السجون في القرن العشرين، شالاموف الذي ذاق الوان الجحيم وظل صامدا الى النهاية، تنازل عن ثمن عذاباته لجلاديه معبرا عن قدرته على التسامح، رغم انه واحد ممن عاشوا اقسى الظروف في معتقل كوليما الشهير بفظائعه، حيث يتحلل فيه الكائن البشري اثر الجوع الدائم والصقيع والاعمال الشاقة، حسب وصف احد السجناء، يتحلل ليعود الى حيوانيته ونباتيته ومكوناته المعدنية، ليصبح كائنا جامدا فاقدا لبشريته. لكن على السجين التعود على القليل من فتات الطعام الذي يقدم اليه، كي لايبقى حلمه الدائم الطعام والدفء.
أشقى المخلوقات
يذكر ان انشاء سجن الغولاغ اوكوليما عام 1932 كان من بنات افكار المهندس الليتواني ادوار برزين تقربا لستالين، لكن حكم عليه اخيرا بالاعدام بعد نيله وسام لينين! وذلك لاستغلال مناجم الذهب الواقعة قرب نهر كوليما بسيبيريا في درجة حرارة 50 درجة تحت الصفر التي يتجمد فيها البصاق، وهو اوسع سجن عرفه العالم انذاك والاشد بشاعة، احتشد فيه مئات الالاف من السجناء، كان على كل سجين، وفقا لشالاموف، ان يستخرج 6 امتار مكعبة من التراب يوميا، والا تعرض للعقاب، لذا كان المساجين اغلبهم يموتون في السنة الاولى من قدومهم بسبب سوء التغذية وشدة الصقيع والارهاق. وعن ذلك كتب احد السجناء في رسالة جاء فيها: ان اول ما يواجهه السجين هو الجوع الذي يحول الاجساد الى هياكل عظمية، والاعمال الشاقة، وضباب الثلج، وهم في الاسمال البالية التي لاتقي من البرد. والصقيع القاتل، وترقب الموت الرحيم، هكذا تموت اعداد كبيرة من المساجين من دون ان يحرك ذلك ساكنا لدى المسؤولين، لان ثمة افواجا جديدة ستحل وتعوض اليد العاملة التي قضى عليها الموت، وبالرغم من كل ذلك يرى شالاموف ان الانسان اثبت في معسكر كوليما انه اكثر صلابة من الحيوان، فالحصان او الكلب والقط لن يتمكن اي منها من البقاء على قيد الحياة لو انه امضى شهرا واحدا في «معسكر كوليما» في الجوع والبرد القارس والعمل الشاق في الجليد، لكن الانسان بامكانه ان يعيش، كونه اشقى المخلوقات، واقواها.
الطابع الإنساني
شالاموف كان متعلقا بذاته، يعي ويفهم ويفكر ألا تهجره احلامه او ينسلخ ويتوحش، فكان يصبو الى الكتابة، يقتنص وقتا يستحضر فيه ابياتا شعرية لبوشكين وليرمنتوف وباسترناك وغيرهم، وقد وجد في الادب مجاله الذي فيه حريته، فكان يكتب احيانا ويخفي اوراقه، فكتب حكايات واقعية وفق رؤيته عن ماهية الخير والشر، كتب عما يتبقى من الانسان حين يغدو وحشا لفظاعة الظروف.
وتكمن اهمية ادب شالاموف من خلوه من الطابع الشخصي، اي في جوهريته وانسانيته الصميمية، كان يستقي قصصه من معايشته، ومما كان يرويه له السجناء، يقول: لايبقى الانسان انسانا عندما يغدو التوحش ضرورة بقاء، ما يجعل واحدا ما امينا مخلصا عندما يغدر الاخرون، ان كل هذا مجاله الادب كما يرى شالاموف. نشرت قصص شالاموف بعد وفاته عام 1982 بزمن طويل، حيث خرجت الى النور للمرة الاولى 1989 بعد انهيار النظام السوفيتي، بينما نشرت كتب عديدة تندد بستالين قبل ذلك لان شالاموف لايحمّل ستالين وحده، انما ادان في قصصه النظام كله ما تسبب في عدم طبعها وتأخيرها حتى ما بعد زوال النظام، ولعل من بين ابرز قصصه «كلمة تأبينية» يقول في مستهلها: «ماتوا كلهم / مات نيقولا رفيقي الذي اعانني يوما على اخراج حجر كبير من فج ضيق / مات نيقولاي رئيس المجموعة الذي اعدموه لعجز مجموعته عن تنفيذ العمل المطلوب منها» هكذا نلاحظ ان نصوص شالاموف لم تكن سياسية، بل غلب عليها الطابع الانساني، كما صور في قصصه تحالف السلطة مع مجرمي الحق العام، ومنحهم الحق في قتل السجناء السياسيين وضربهم.