من ظاهرة تمرد داخل القضاء زادت من قتامة واقع المداخلات السياسية والحمايات السياسية السلطوية التي يعانيها الى ما هو أسوأ ويرقى الى التسبب بحالة فوضوية غوغائية أشبه ما تكون بحالة ميليشيوية. هذه كانت الخلاصة الشديدة القتامة والصادمة لما قامت به القاضية غادة عون أمس لليوم الثاني مدعومة بلا أي حرج وبكل معالم الدعم والإسناد من تيار العهد “التيار الوطني الحر” ورئيسه جبران باسيل إعلامياً “ولوجستياً” عبر مجموعات المتظاهرين الذين اعتدوا لليوم الثاني على الملكية الخاصة لشركة الصيرفة المملوكة من ميشال مكتّف.
والواقع أن القاضية غادة عون أحدثت سابقة في تاريخ القضاء لم يحصل مثلها في عز حقبات الحرب. فالانقسامات الجغرافية والطائفية في الحرب لم تبلغ حدود استحداث حالات تمرد على النظام القضائي والأصول أو عدم المبالاة بكل التداعيات التي يمكن أن تتأتى عن استقواء قاض أو قاضية بموقع نفوذ إلى درجة تحدي أعلى مرجعية قضائية هي مجلس القضاء الأعلى والنائب العام التمييزي ورئيس هيئة التفتيش القضائي مرة واحدة. وصل الأمر أمس بهذا التطور الخطير البالغ السلبية على صورة القضاء وهيبته واستقلاليته حدود تحدي القاضية عون لكل الهيكل القيادي القضائي ومعه السلطة الوزارية المعنية به أي وزيرة العدل ماري كلود نجم المحسوبة بدورها على المرجعية العونية عهداً وتياراً والتي تهربت بشكل واضح من اتخاذ موقف إدانة مباشر بحق غادة عون.
وكل ما أعلنته الوزيرة وحاولت من خلاله احتواء الموقف بدا أقرب الى غسل اليدين من هذه الفضيحة الجديدة المخزية. وبدا واضحاً وضوح نور الشمس أن القاضية المتمردة ما كانت لتمضي في تصعيد حركتها الفضائحية لولا الإسناد المباشر بل التحريض الواضح التي جاءها من رئيس التيار العوني جبران باسيل وعدد من نواب التيار بالإضافة الى توفير مجموعة متظاهرين محازبين وانصار للتيار العوني قاموا بعمليات الاعتصام والاقتحام وافتعال الصدامات أمام شركة مكتّف وعلى مداخلها في عوكر.
وإذا كان الاجتماع القضائي الذي عقدته وزيرة العدل انتهى إلى التشدد في ضرورة محاسبة التفتيش القضائي للقاضية المتمردة على قرار كف يدها عن الملفات المالية التي كانت تعالجها فإن تحديها المتجدد لقرارات الاجتماع وخلق حالة غوغائية بهذا الشكل وضع رئيس الجمهورية بصفتيه الشخصية والسياسية وكموقع أول على رأس الدولة أمام تحد لا يمكنه التهرب منه بذريعة عدم التدخل في القضاء وهو الذي جعل حالة غادة عون تتعاظم بهذا الشكل لأنه أوصد الباب على تشكيلات قضائية كان يمكن أن تبدأ معها فعلاً عملية حماية القضاء من المداخلات والوصايات السياسية.
إذن بعد رفضها الامتثال لقرار مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات يوم الجنعة وبعيد الاجتماع القضائي الطارئ، الذي عقد في مكتب وزيرة العدل امس عادت القاضية عون واقتحمت مكاتب شركة الصيرفة لميشال مكتف مجدداً أمس ترافقها مجموعة من مناصري التيار الوطني الحر، حيث فوجئ القاضي سامر ليشع الذي حضر بمؤازرة أمنيّة الى مكاتب الشركة بناءً على تكليف عويدات بوجودها هناك، متخطية تطابق مواقف رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود ومدعي عام التمييز ورئيس التفتيش القضائي بركان سعد وإجماعهم على ضرورة مثولها أمام التفتيش. وشهد الاعتصام صدامات مرات عدة بين المقتحمين وموظفي الشركة وحراسها كما حصلت أعمال تخريب داخل الشركة وحاولت عون شخصياً الحصول على أوراق من مكاتب الشركة فبعثرت في المكاتب الى أن قررت عون الانصراف مساء مع المقتحمين.
وزيرة العدل ماري كلود نجم كانت أعلنت بعد الاجتماع القضائي الطارئ، أنّ “ما حصل في الأمس مرفوض كلياً من جميع اللبنانيين و”اللي بدو يزعل يزعل”، مضيفةً: “لست هنا اليوم لأخذ موقف مع جهة سياسية بوجه الأخرى، ولا تبعية سياسية لدي. بغض النظر عن الأشخاص والأخطاء، نرى اليوم خلافاً قضائياً وانقساماً، والشعب يرى أن القضاء منقسم وتابع لمرجعيات سياسية، وهذا الأمر يقسم الشعب أيضاً، وأرفض وضع القضاء الحالي الذي يلغي نفسه ويسقط نفسه أمام الناس”. وسألت: “كيف لقاضٍ الوقوف على قوس المحكمة وهو مرتاح فيما هو منحاز لجهة سياسية؟ وهذا هو الواقع اليوم، فهناك قضاء عاجز عن مكافحة الفساد ويقاتل في معركة إعلامية؟” وتابعت: “هناك مرجع في القانون اسمه هيئة التفتيش القضائي، وطلبت منه منذ أسبوعين أن يضعه يده على ملف القضاء لتقييم أداء القضاة، وتصنيفهم بين المخطئ والصائب، وأطلب من التفتيش المضيّ بهذا الملفّ لأن الوضع لم يعد مقبولاً”. وناشدت نجم “القضاء الانتفاض على الواقع الحالي، لافتة إلى “أن المشكلة اليوم تدلّ الى فشل مؤسسات الدولة في ظلّ عدم الفصل بين السلطات”
وكان رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل غرّد عبر “تويتر”، قائلاً: “إن الكلام عن الإصلاح ومكافحة الفساد لا معنى له إذا لم يكن هناك قضاء مستقل وجريء وفاعل؛ فالثورة الحقيقية هي ثورة القضاء النزيه الذي يلاحق قضايا الناس بوجه بعض القضاة الفاسدين الذين يخبّئون بعض الملفات ويقصّرون في بعضها ويعطّلون بعضها الآخر”. بدورها اصدرت الهيئة السياسية في “التيار الوطني الحر” بعد إجتماعها برئاسة النائب باسيل بياناً “حيت فيه كل قاضٍ يتجرّأ بالحق ويقوم بواجباته رغم ما يتعرض له أحياناً من ظلم “.
وفي الملف الحكومي جدد “التيار الوطني الحر” هجومه على الرئيس سعد الحريري معتبراً أن “اللبنانيين ملّوا من تكرار الأسباب التي تقف وراء امتناع رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري عن تشكيل الحكومة، إن هذا التأخير يرتد على حياة الناس ومعيشتهم ويفاقم من الإنهيار المالي والإقتصادي.إن التيار الذي يكرر مجدداً أنه لن يشارك في الحكومة، يؤكد أنه لن يتوقف عن فعل كلّ ما يلزم والمبادرة لحثّ الرئيس المكلّف على التأليف من ضمن الميثاق والدستور وهو يقوم مؤخراً بجهدٍ إضافي ومكثف بعدّة إتجاهات من أجل تشجيع رئيس الحكومة المكلّف على وضع مشروع حكومة متكامل يقدّمه لرئيس الجمهورية بحسب الأصول من أجل الإتفاق بينهم على تأليف حكومة تحصل على ثقة المجلس النيابي والمجتمع الدولي وكافة اللبنانيين”.
ورد “تيار المستقبل” فدعا “التيار الوطني الحر” إلى وقف المسرحيات الهزلية المملة, وإلى التوقف عن بث الأضاليل, فهو يعرف أن الرئيس المكلف قدم تشكيلة حكومية كاملة المواصفات منذ أكثر من أربعة أشهر استنادا الى معايير الدستور والميثاق والكفاءة ولكن للاسف حتى الآن فان رئيس الجمهورية يحتجزها الى جانب التشكيلات القضائية ومراسيم مجلس الخدمة المدنية”. وفي ملف القضاء اعتبر “تيار المستقبل” أن “ما يحصل في الجسم القضائي مسألة في غاية الخطورة، وهي سابقة لم تحصل في خلال الحرب الأهلية المشؤومة، ولا حتى في أيام سطوة النظام الأمني اللبناني السوري المشترك.
إن التباكي على بعض القضاة بعد تشجيعهم على مخالفة القوانين، والطلب اليهم فتح ملفات استنسابية للخصوم هو أمر لم يعد ينطلي على أحد من اللبنانيين. إن القضاء هو حصن العدالة وملاذ المظلوم ومتى سقط تسقط منظومة قيم الحقوق والواجبات ونذهب إلى نظام تسوده شريعة الغاب، فالتصدي لما يحصل من ممارسات غريبة عجيبة في القضاء تبدأ بالافراج عن التشكيلات القضائية المحتجزة في القصر الجمهوري لغايات كيدية وسياسية ,وما يشاهده اللبنانيون اليوم هو نتيجة طبيعية للاعتداء على صلاحية مجلس القضاء الاعلى ومخالفة القوانين عبر الاستمرار في توقيف التشكيلات القضائية دون أي مسوغ قانوني.