أمان السيّد – سدني

موضع مظلم جدا رغم أضواء النيون التي تنيره. الشمس بعيدة تماما عنه، وعمن يقطنونه. هو مرتب، وأنيق في تفاصيله كي يدخله الناس باطمئنان، وارتياح، من امرأة تسرّح شعرها بعد أن تقضي حاجتها، إلى أخرى تعيد تجميل وجهها، فتقف أمام المرايا الصقيلة، تتعطر، وتعيد صياغة شكل به ستصافح ساحات المركز التسويقي، غير أن الصمت هو ديدن المكان، فلا تحدّثَ مع العاملات فيه بالطبع، لكن ذلك لن يمنع عابرا فضوليا حساسا نوعا ما من أن يدردش مع واحدة منهن، ويعتصر غصة، ثم يمضي..

قاذروات البشر من الصعب أن تُشتمّ رائحتها، إذ في أعقابها يُرشّ المعطر باستمرار ضمن اعتيادِ رضًى ممن يعملون هناك.

الموضع مجسّم لجحر فأر، أو أرنب أحيانا، وصالون استقبال بهي في المراكز الكبيرة، لكن أفضل ما ينعت به الغياب من الذاكرة الإنسانية.

عاملوه يتلبّسهم الهدوء، واللااكتراث في المطلق حتى لتشعر بأنهم أطياف تتنقل، وقد تلاشى منها الأثر، يتحركون كآلات تتنبه فقط لتنظيف فضلات البشر متى لامس صوت الماء الذي

يدلق فوقها أسماعهم، وصفق الباب معلنا خروج صاحبها.. لا شكوى منهم حول أي شيء، ولا نظرة غيرة أو حسد نحو من يدخلون المكان بثراء جليّ، بل هو العكس، بابتسامة يستقبلونك، وبها يودعونك في استسلام لأقدار لن يتغير مسراها حتى في الحلم، وإن صادف وتلاقت عيناك بعيني أحدهم، أو إحداهن فستتّسع الابتسامة أكثر لتشعر أنك أمام جندي يمتثل إلى أمر عسكري، وإن فكّر واحدهم باستباقك بمنديل لتجفّف كفيك بعد غسلهما، فأنفتَ أن تتاوله، فلا تحسبنّ أن شيئا ما سيتغير، إذ يكفيه اعتقاده أنه قد وصل بتصرفه ذاك إلى أعلى درجات الإبداع الذي سيتسنّى لعامل مثله محصور السقف، والأمنيات.. إنه، هو، هو تحت أي ظرف وانفعال!

ولو أنك تساءلت عن عامل التنظيفات ذاك، مرتّبه، معيشته، عائلته، إجازاته، سفره، أمانيّه، فستصل إلى صفرين لا ثالث لهما، وجحر لا نهاية له في مراكز تسويقية تتداول من العملة الملايين، والمليارات أحيانا. إنه الاستسلام، والظلمات، متلازمتان أبديتان له للعيش الذي استيقظ عليه مذ لفِظ َ إلى الحياة!

يومه يُحاك حصيرا بين صباح لم يكتمل، وليل يغوص في اسوداد جلده، وغرفة قصيّة هي امتداد لغرف المراحيض، بفارق أنها تتّسع لجسد متربّص كأحدب بين مقشّات، وأقمشة

التنظيف، والمعقّمات، ولفافات الورق في استعداد دائم للانطلاق سريعا لسكب الماء، والتنظيف وراء كل قاضٍ حاجته، أما الإغفاءةُ  إن حدثت- فلا تعدو أن تكون استمرارا لفضاء تشيع فيه أبخرة وغازات كريهة، وانقضاضٌ لمراقبي العمل بين الفينة والأخرى..

حياء يجلّلني، وأنا ألتقيها في ذلك الموضع، أباشرها بتحية قد لا تتوقعها إلا نادرا، وجهد مني لأشعرها بتوازينا في هذا العالم الذي يغصّ بالنّقائص، ونتف من كلام يتناثر بيني، وبين إحداهن عرفت فيه ما عرفت من أنها لا تغادر هذا المكان إلا للفراش، ولا عطلة لها طوال أعوام لتسافر إلى موطنها، وعائلتها..

أتثبّتُ من حلاوة القناعة بالمقسوم، غير أنه يخطر لي ما يُرطن به من «التخيير والتسيير»، فأطأطئ برأسي، وأنا أسكِتُ احتجاجا أدرك أنّي لن أجد له مخرجا إلا بالاصياع إلى المقسوم أيضا!

« أيّ الغياب ذاك…»

عبث كبير،

صوب الأشياء،

لا مشاعر،

ولا، لا مشاعر.

ترى هل إلى الأحياء ترتقي،

ومن يجزم بشيء تجاه لا شيء..

نعم،

هي السماء،

تُفرج رحمة أحيانا،

يحدث أن،

تتسربلَ بقنوطٍ لحظيٍّ،

يسرق منك شغف الحياة..

قطرة ما،

عذبة تهبط،

تقلب الحال..

منذ أوان، خلقنا،

نستهلك في الطريق أعمارنا،

وإلى اللاشيء نسير..

من منا يستطيع أن يجزم،

أن قلبه الذي ينبض،

وأن عينه التي تبصر،

وأن قدميه هما اللتان

تدحرجان أرصفة سِنيه،

ومن،

ومن….

من رحلوا،

أطبقوا على الصمت،

سائرين، خَببا،

أسرارهم كهوف،

مصابيحها تنوس رويدا رويدا،

أنّى لمن رحل،

أن يشعل لك النور من جديد..

يا عابقا بالموت، تريّث،

وأنت بيدك تقضمُ الرحيل،

أمَا أنت المعلن للعالم موته،

مذ عَامَ في مشيمة الوجود..

صفقوا لك،

نَتأت صرخة أولى،

هللوا لموت قادم،

ما كان ضرّهم لو أنهم،

قليلا، تريّثوا

وفي الرسائل،

استغرقوا،

بها تحفّ خاصرتك..

يا عابقا بالرحيل،

للموت،

سياط الرّعش،

وغرقُ الفقد،

والتلعثمُ بالظلام،

ليس إلا..

أما دريت أن في الموت اختلاقا،

وابتكارا، وتزاحما للانتفاض،

وأن في الأسرار سراديب،

تستعصي على المنتظرين أفواجا..

فوحٌ ما سيأتي،

متى أنصتّ لطاقة البعث فيك،

الجَنيَّ تكون..

أيها النّاحتُ في الاستتار،

أي غياب ذاك،

ومنذ الرّكلة البكر،

أطلقت إعلان وأدك حيا..