بقلم
نجمة خليل حبيب
يقدم هذا الكتاب، «المدرحية فلسفة النظام الجديد»1، للدكتور أسامة سمعان، شرحاً سلساً ومُبسّطاً لنظرية فلسفية نحتها صاحبها أنطون سعادة من كلمتي المادة والروح. والمادة عند سعادة بشرية مكوّنة من الأجسام المتسلسلة من بعض العناصر وهي المحيط الطبيعي بجغرافيته وجوِّهِ وكنوزه الطبيعية. أما الروح، فبناء يقوم على هاتين المادتين الاساسيتين من الثقافات المتوالية التي تميزها عن غيرها من الأمم (ص 38) .
نقرأ في المقدمة استكشافاً لملامح النظام السياسي الجديد الذي رأى فيه أنطون سعادة بعثاً لنهضة قومية سورية اجتماعية تؤدي الى استقلال الامة السورية استقلالاً تاماً وإنشاء دولة جمهورية برلمانية ديموقراطية علمانية اجتماعية قادرة على رفع مستوى حياة الناس وعلى إنشاء جبهة عربية (13). واستدلالاً على مكانة سعادة الفكرية والوطنية في محيطه العربي يعرض الكاتب آراء خصومه العقائديين كساطع الحصري القومي العربي الذي أقرّ للحزب القومي السوري الاجتماعي بالأسبقية على سائر الأحزاب في المنطقة في كونه حزباً يخاطب العقل والعاطفة معاً، وفي أنه استطاع بفضل تنظيماته أن يوجد تياراً فكرياً وسياسياً قوياً جداً في لبنان وسوريا. أما كمال يوسف الحج، وهو من دعاة القومية اللبنانية الطائفية، فيقول: «انطون سعادة فيلسوف قبل كل شيء وفوق كل شيء. بفضله ولأول مرة تتفلسف الحزبية فتتحزب الفلسفة». ثم ينتهي الكاتب مؤمناً بطرح الباحث مجيد خدوري القائل إن سعادة هو كالأنبياء الأولين. ولعله كان من الأفضل لو أن الدكتور سمعان نوّه إلى أن وجه الشبه هنا، يقتصر على الدور المجتمعي الإصلاحي الذي كان الأنبياء يقومون به، لا الدور السماوي التبشيري الذي يبحث في الماورائيات.
يثبت دكتور سمعان بالبراهين أن بدء الحضارة الإنسانية تعود إلى النطوفيين سكان جبل الكرمل في فلسطين، معارضاً بذلك ما هو شائع في علم الأركيوجيليات عن نسبة بدء الحضارة الإنسانية إلى السومريين سكان بلاد ما بين النهرين. إذ دلّت الكشوفات أن الحضارة النطوفية تعود إلى 10،000_8،000 سنة قبل الميلاد، بمعنى أنها أسبق من الحضارة السومرية بسبعة ألآف سنة.2
والـمُعجِب في هذه الفلسفة هو علمانيتها. فهي بذلك تكون سباقة إلى اكتشاف خطر زواج الدين بالدولة، فتقف نداً في وجه المد الطائفي والمذهبي، الآفتين الأكثر إثارة للفتن على مدى التاريخ العربي الحديث والمعاصر. فكأن سعادة قرأ المستقبل فرأى أن الأمة السورية ذاهبة إلى هذا المد الذي تبلور بعد انحسار المد العروبي ليبدأ حيياً مع ثورة الخميني (1979) ثم يتغوّل أثناء وبعد الحرب الأمريكية على العراق (1991-2003) حيث صرنا فعلاً «الوَيْل» الذي حذّر منه جبران خليل جبران3. ويعود رفض سعادة للدولة الدينية إلى فسيسفساء الأديان التي يتميز بها مجتمع بلاد الشام الذي لا تناسبه دولة دينية من لون واحد، إذ عندها ستسعى هذه الدولة إلى تعميم نظرتها الفلسفية على جميع مواطنيها من غير دينها أو طائفتها بالقوة وهذا ما يجعلها دولة قامعة ودكتاتورية بامتياز.
دعا سعادة إلى نظام برلماني ودولة ديمقراطية عصرية ترتكز على ارادة الشعب، وكرّس مبدأ المواطنة والمساواة السياسية والقانونية بين المواطنين بغض النظر عن الدين او المذهب او العرق او الجنس. والمواطنة عنده تقوم على خمس قيم هي: المساواة في الحقوق والواجبات؛ الحرية التي تتجسد بحرية الرأي والمعتقد وحق الانتخاب؛ المشاركة وتتضمن الحق في تأليف الأحزاب وممارسة الضغط السلمي على الحكومة لتصحيح مسارها؛ مبدأ التداول السلمي والدوري للسلطة؛ والمسؤولية الاجتماعية التي تضمن الواجبات كالخدمة العسكرية واحترام القانون وما الى ذلك
حسم سعادة النقاش الدائر حول عروبة حزبه فقال: . . . إنني أعلن أنه متى أصبحت المسألة مسالة مكانة العالم العربي كله تجاه العوالم، فنحن هم العرب قبل غيرنا. نحن جبهة العالم العربي وصدره وسيفه وترسه وحماة الضاد فيه ومصدر الاشعاع الفكري في العالم العربي، ولكن للأسف ولأننا أمة لا تزال تعيش بعقلية القبيلة والحمولة والعشيرة، ولأننا «أمة كل ينادي فيها أنا أمة»، وقع الصدام بين العقيدتين(القومية العربية والقوميّة السورية الاجتماعية) في أكثر من مرّة
استقرأ سعادة الفلسفات السياسية التي عاصرها فوجد في كل منها نقصاً يبعدها عن الكمال. فالحرية الفردية الليبرالية البرغماتية انبثقت من أسس دينية وردت في التوراة تتحدث عن خلق آدم بمفرده ثم خلقت حواء، وبزواجهما ولدت البشرية، وهي بذلك تعتبر الفرد أساساً للمجتمع، أمر يرفضه العلم ولا يؤمن به سعادة الذي يرى أن الإنسان وفي أي درجة من الانحطاط أو الارتقاء وجد، وجد في حالة اجتماعية لا فردية. ثم إن كل ما فعله نظام الطبقات الراسمالي هو استبدال نظام الإقطاع القديم بنظام الطبقات الجديد الذي لم يحل الأزمة الاجتماعية بل فاقمها. والفاشية النازية (الاشتراكية القومية) التي نادت بالروح وحدها، رغم أنها حلت مشاكل مهمة في المجتمع وسارت بعامل روحي لترجمة التاريخ الانساني، غير أنها لم تتمكن من تثبيت نظامها وحده في العالم. كما أن الشيوعية القائمة على المادية المحض، قصّرت في حل مشكلة المجتمع، فحرب الطبقات بين مادية العمال ومادية الرأسماليين وإقامة سلطة البروليتاريا الدكتاتورية ليست نظاماً صالحاً لتقدم الإنسانية نحو مقاصدها الكبرى
يلتقي سعادة مع الفيلسوف الأميركي جون ديوي الذي رفض مصطلح الاشتراكية ومصطلح الجماعية ونحت مصطلحاً جديداً أطلق عليه اسم التجمعية. وفي هذا يقول: إن الولايات المتحدة قد انتقلت باستمرار من فردية رائدة مبكرة إلى حالة من التجمعية الاتحادية المسيطرة. وأن الأثر الذي تتركه اتحادات العمال والحرفيين والتجار، سواء كانت صلبة أو رخوة في تنظيماتها، تحدد أكثر فأكثر فرص الأفراد ومجالات اختباراتهم وأعمالهم. وهكذا جاءت فلسفة سعادة لتسد هذه الثغرات بتبني عقيدة قومية اجتماعية … والمجتمع الأكبر هو الامة. وبرأيه أن الواقع الإنساني هو واقع مجتمعات، واقع أمم تتصادم وتتنازع موارد الحياة وتتحارب وتظهر مواهبها ومؤهلاتها للبقاء في تأمين سلامتها وسلامة اهدافها قبل تأمين السلام، فكل تفكير في أعمال الإنسان وأغراضها يجب أن يبدأ من أساس هذه المعرفة من فهم الواقع الإنساني وفهم تاريخ الأجناس والأمم والمدنيات:
«إن عقيدتنا تقول بحقيقة إنسانية، كلية أساسية هي الحقيقة الاجتماعية. الجماعة، المجتمع المتحد فالإجماع الإنساني حتمي لوجوده، ضروري لبقائه واستمراره، والمجتمع هو الوجود الإنساني الكامل، والحقيقة الإنسانية الكلية. والقيم الإنسانية العليا لا يمكن أن يكون لها وجود ودخل إلا في المجتمع ، فمُتَجه القيم كلها هو المجتمع، هو مصيرها وهو غايتها (48-47).
وبناء عليه، اعتمد سعادة نظاماً اقتصادياً تحاشى به ما في النظامين العالميين الراسمالي والاشتراكي من ثغرات، فألغى الإقطاع ونظم الانتاج القومي على أساس الانتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة، وقدم عقيدة موحدة تأخذ من كل نظرية محاسنها وتغض عن مساوئها. فهو لم يرفض إيجابيات النظام الاشتراكي لجهة استغلال النظام الطبقي والقضاء على البطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية وإنما رفض ظهور روح الاتكالية وانعدام المبادرة الفردية وتدني نمو الانتاج وانعدام المبادرة الفردية ونمو البريروقراطية المتشددة. ورأى أيضاً في النظام الرأسمالي أسساً جيدة يجب اعادة النظر بها كالملكية الخاصة لوسائل الانتاج والحرية الاقتصادية والمنفعة الخاصة. ورفض نظامها الطبقي الذي جعل المجتمع ثلاث طبقات: طبقة ساحقة وطبقتين مسحوقتين. طبقة مسحوقة نفسياً هي الطبقة الوسطى وطبقة مسحوقة مادياً هي الطبقة العاملة، الأمر الذي أدى إلى حرية الاستبداد والاستعباد.
عرض د. سمعان الفلسفة المدرحية بأسلوب واضح لايستعصي على الفهم، وبحيادية بعيدة عن أي فوقية أو معاداة لأي من الأحزاب أو الحركات السياسية التي كانت على طرفي نقيض مع فكره ألـلهُمَّ إلا في موقف واحد وهو انتقاؤه نصاً للشيخ محمد عبده استشهد فيه على كره المسلمين للفلسفة جاء ففيه:
«لقد بلغ كره الفلسفة عند المسلمين حداً كبيراً حتى نجد ان الشيخ محمد عبده الذي يعد من رموز عصر النهضة يقول: [إننا في تحصيل العلم الحيوي، لا نحتاج إلى الاستفادة من البعداء عنا، بل يكفينا فيه الرجوع إلى ما تركنا، وتخليص ما خلطنا، فهذه كتبنا الدينية والأدبية حاوية لما فوق الكفاية مما نطلب، وليس في كتب غيرنا ما يزيد إلا بما لا حاجة لنا به] (31)
فاستشهاده في هذا القول ليثبت أن الإسلام منغلق على الفلسفة لم يكن موفقاً، إذ أن ما استشهد به محمد عبده يلتقي مع سعادة ولا يعارضه، فكليهما دعا إلى عدم التغريب. يقول سعادة: «إن الأفكار المستوردة من الخارج لا تحرك عوامل النفسية الصحية» 35. وفي تعريفه للنظام السياسي الاقتصادي قال إنها «اشتراكية القومية الاجتماعية الملائمة لحاجات بلادنا». (157)
تؤمن المدرحية بفلسفة القيم المجتمعية الحق والخير والجمال إيمانا مطلقاً، وهي عندها على نفس الدرجة من الاهمية كالمأكل والملبس والكسب وصناعة التفوق. فرغد الحياة لا يستقيم إلا بالغذاء المادي والروحي على حد سواء. ومما لا شك فيه أن لهذه التربية يعود إيمان السوريين المجتمعيين الحتمي بحق عودة فلسطين إلى الاسم والتاريخ والجغرافيا التي كانت لها قبل نكبة 48، وقد تجلّى فعل الفداء من أجل فلسطين واضحاً بصمود الحزب ضد كل التسويات التي تغمط هذا الحق، كما تجلّى بالعمليات الاستشهادية النوعية التي قام بها القوميون السوريون، يحضرني منها عملية خالد علوان بطل عملية مقهى الومبي في شارع الحمراء في بيروت حين أطلق النار من مسدسه على ضابطين إسرائليين بعد أيام قليلة من دخولهم (أي الإسرائيليين) العاصمة اللبنانية بيروت. وإذ ننسى فلن ننسى سناء محيدلي التي ضج العالم بجرأتها وتضحيتها حين فجّرت ابنة الثامنة عشرة ربيعاً نفسها بحاجز إسرائلي عند نقطة عبور باتر- جزين في لبنان أسس سعادة في مدرحيته نظاماً كفيلاً بإحداث نهضة فكرية شاملة قادرة على إنقاذ المجتمع من مستنقعات الجهل والتخلف وما يصحبهما من إغراق في الطائفية والقبلية والعشائرية، وقد وعى الاستعمار الكولونيالي خطر هذا المشروع على مصالحه في المنطقة العربية، فدبر له محاكمة كيدية أدت إلى إعدامه، فهي وإن لم تقضِ على مشروعه، فإنها على الأقل، عرقلت تقدّمه.