وجه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في مؤتمره الصحافي الاخير الكثير من الرسائل السياسية المتصلة بالتركيبة اللبنانية، أو الادق ببنية النظام في لبنان والتي تكرست باتفاق الطائف الذي جاء على انقاض الحرب الاهلية وتوج الميليشيات حكاما على الصيغة التي تم التوافق عليها دوليا واقليميا.
بعيدا عن معزوفة «الحقوق المسيحية»، تحدث باسيل عن مساع تقوم بها جهات دولية لمصالحة سنية شيعية في المنطقة. لم يأت باسيل بجديد لاسيما وأن المعطيات تشير الى أن المساعي العربية مستمرة لحل الخلاف بين السعودية وايران، مدخله الاساس انهاء الحرب في اليمن وطرح الملف النووي الايراني على الطاولة لنكون جديا امام مرحلة تقريب وجهات النظر وترميم العلاقة بين الدولتين.
هذه المساعي وان كانت في بداياتها الا أنها سلكت طريقها، وهذا الامر انعكس تقاربا بين الثنائي أمل حزب الله ورئيس الحكومة سعد الحريري الذي بدا متساهلا في شروطه مع هذا الفريق وخضع في نهاية المطاف الى التمني الفرنسي باعطاء وزارة المال للثنائي، الى أن عادت الامور وتعقدت مع المكون المسيحي في السلطة أي التيار الوطني الحر.
هنا استحضر باسيل المصالحة ليؤكد مصلحة لبنان الكبيرة بها، لكنه غمز من قناة التحالفات الداخلية ليحذر «البعض الذي يفكر أن يترجم تلك المصالحة بتحالف رباعي جديد لعزل المسيحيين»، واضعا الكرة في ملعب حزب الله الذي «لا يلعب تحت الطاولة».
ما يشتمه باسيل أكبر من حجم لبنان، هي استراتيجية دولية يتم التخطيط لها ولا تنحصر بحقائب وزارية، بل ثمة من يعمل داخل الاروقة الخارجية بين واشنطن وموسكو وبعض الدول الاوروبية على فرز خرائط جديدة للمنطقة، في ضوء تغير الحدود بين الدول واتفاقات سلام مع اسرائيل قد تظهر معالمها في السنوات القليلة المقبلة، تأثيرها على لبنان سيترجم بتغيير بنية النظام.
وهنا يبرز الخوف من تعديلات تطال موقع رئاسة الجمهورية الذي يمكن أن يُنتزع من المسيحيين في أي تركيبة جديدة، وفي السياق استحضر باسيل حواره مع الرئيس السوري بشار الاسد والذي اشار فيه الى ضرورة بقاء المسيحيين أقوياء وأنه «لو بقي مسيحي واحد في لبنان يجب أن يكون هو الرئيس وصلاحياته قوية، ومصلحتنا في لبنان وسوريا والمنطقة أن يبقى المسيحيون في دورهم وخصوصياتهم من دون أن يذوبوا».
لا شك بأن الاسد كنظام ليس مادة سهلة للحديث عنها أو الركون اليها لاقناع فئة كبيرة من اللبنانيين لاعتبارات باتت معروفة، غير أن الحديث هنا يتصل بالطائفة العلوية حصرا التي لا تزال تحكم سورية وهي تعتبر أقلية مقارنة مع الامتداد السني في البلاد، والمقارنة معها تأتي من زاوية التسويق لتقسيم سورية واسناد نظام الاسد الساحل السوري لتكوين الدولة العلوية، وهي فكرة قديمة عاد البعض ليجددها، سيما وأن الواقع الميداني السوري يشير الى فقدان النظام السوري نفوذه على البلاد وتشتت الحدود واخضاعها لسلطة الدول التي تهيمن على البلاد «روسيا ايران الولايات المتحدة».
ويتطابق الواقع المسيحي اليوم مع التفكير العلوي في المنطقة حيث بات المسيحيون في لبنان أقلية في العدد بعد النكسات التي طالتهم وهجرتهم، وأي حديث عن تلك الاقليات بالمفهوم الميثاقي المتصل بالصيغة لا العدد يقع ضمن خانة الاستهلاك السياسي حصرا، وقوة هذا المكون اليوم باتت ضعيفة بعد التهجير الذي طاله في العراق وسورية ولم يبق لديه الا القليل من النفوذ في لبنان وهذا عامل مقلق تتعاطى معه الدول الغربية باستخفاف لأن الاولوية بالنسبة لها مصالحها، وبالتالي الوجود المسيحي لا يدخل ضمنها، اذ أن الساحة العربية اليوم بحاجة الى «ترويض» المكون الشيعي بعد أن دخل «السنة» ميدان السلام مع اسرائيل، وبالتالي ما يسري هناك يسري على لبنان، حيث تكمن الاهمية باحتواء المكون الشيعي وتحديدا حزب الله وادخاله ضمن المنظومة المؤسساتية كما فعل الغرب قبل ثلاثين سنة مع القوات اللبنانية، وهذه الخطوة لن تكون الا على حساب المكون المسيحي غير القادر على تطبيق السيناريو العلوي الممسك بمفاصل النظام السوري.
هذا الواقع يؤشر الى مرحلة صعبة سيواجهها المكون المسيحي في البلاد لاسباب تعود الى مصالح الدول الغربية باحتواء حزب الله بالدرجة الاولى واعطائه صفة رسمية في الدولة، والى غياب الرؤية المسيحية وانشغال هذا المكون بالحسابات الضيقة لقادته وبهجرة ابنائه بعد أن ضاقت البلاد بطموحاتهم..
تنتهي ولاية ميشال عون كرئيس للجمهورية في تشرين الثاني 2022.. الى أن نصل لهذا التاريخ تطورات كثيرة ستطرأ وسيناريوهات ستطرح عن الرئيس المقبل وعن تمديد قسري وغيرها من التحليلات والتوقعات التي ستنهار على ابواب الاتفاقات الدولية على حساب المكونات اللبنانية.