تمرّ الذكرى 77 للاستقلال (22 نوفمبر 1943) باهتةً تحت وطأة الأزمات العاتية التي بدا معها الوطن الصغير وكأنه على مشارف نهايةِ “لبنان الذي كان” من دون أن يملك أحدٌ جواباً عن “لبنان الآخَر” الذي سيولد بعد “الزوال” أو “رحلة جهنّم” أو الخراب، وكلّها توصيفاتٌ محليةٌ ودوليةٌ صارتْ مُلازْمَةً للواقع المُفْجِع في “بلاد الأرز” التي ينهشها الانهيارُ المالي – الاقتصادي وجوعه الزاحف وجائحةُ “كورونا” وطموحاتٌ سلطوية جامحةٌ وصراعاتٌ إقليميةٌ يُمْعِن بعض الداخل بوضْع البلد “في فمها”.
وفيما حلّت ذكرى الاستقلال بلا مَظاهر احتفالية بفعل الإقفال التام في لبنان لزوم محاولة احتواء “اجتياح كورونا”، عَكَسَ تَراجُع الاهتمام الداخلي بترقُّب مضمون الكلمة التي وجّهها رئيس الجمهورية ميشال عون مساء أمس لهذه المناسبة حجمَ المأزق الذي يقبض على البلاد ويشكّل العجزُ عن تأليف الحكومة أحد أبرز مؤشراته، وسط مفارقةٍ مُرْعِبة يمثّلها وجود شبه تسليمٍ بأنّ وقف “الاصطدام الكبير” لم يعُد ممكناً بحلولٍ محلية وفي الوقت نفسه اقتناعٌ بأن البلاد “لن تصمد” إلى حين تَبَلْوُر “ترياق” اقليمي – دولي.
وبينما كانت تتوالى مؤشراتُ اقتياد لبنان إلى “السجن الكبير” مع الإقفال المُتَلاحِق لـ”مَنافِذ” الأملِ الضيّق بإمكان العبور فوق “أفواه البراكين” على متن مبادراتٍ خارجية كان آخِرها فرنسياً، انهمكتْ بيروت أمس الاول بحَدَثِ عمليةِ “الفرارِ الكبير” التي نفّذها 69 موقوفاً من سجن بعبدا، وهو التطور الأمني الذي تحوّل “الرقم واحد” في شريط الأحداث المحلية بعد أيامٍ من إضاءاتٍ مخيفة على “الفرار الجَماعي” (بالهجرة) للبنانيين في الأشهر الأخيرة هرباً من الواقع الدراماتيكي الذي ازداد مأسوية بعد الانفجار الهيروشيمي في مرفأ بيروت (4 آب أغسطس).
ومنذ أولى ساعات صباح أمس الاول انشغل لبنان بعملية الهروب الغامضة في ملابساتها من نظارة مخفر بعبدا والتي أشارت تقارير إلى أنها وقعت قرابة الثامنة صباحاً حين هاجم موقوفون أحد عناصر الأمن الذي كان يحاول إزالة النفايات من داخل المكان الذي وُضع فيه نحو 200 موقوف في غرف مفتوحة على بعضها، وعمدوا إلى ضربه وسط معلومات عن احتجاز رجل أمن ثان، علماً أن مجموع عناصر الحماية للنظارة لا يتجاوز 3.
وبعد فرار 69 من الموقوفين (من جنسيات لبنانية وسورية وعراقية وفلسطينية)، عاودت القوى الأمنية توقيف 15 إلى جانب 4 سلّموا أنفسهم وأحدهم تولت والدته بنفسها تسليمه، فيما كان الأكثر “سوريالية” أن إفلات 5 موقوفين من القضبان لم يكن عنوان بداية جديدة خطّطوا لها بل كَتَبَ لهم نهايةً حملتْ توقيع شجرةٍ اصطدمت بها سيارة تاكسي استولوا عليها بعيد فرارهم (بعدما أنزلوا سائقها عنوة) وذلك في محلة بولفار كميل شمعون – الحدث ما أدى إلى مقتل هؤلاء وجرْح سادس كان معهم.
وما أن انكشفت عملية الفرار، حتى استنفرت القوى الأمنية والبلديات المعنية والقضاء بمتابعةٍ مباشرة من رئيس الجمهورية في محاولةٍ لمعاودة توقيف الهاربين وكشف ملابسات العملية وإمكان حصول تواطؤ من عناصر أمنية، وهو ما تَرافق مع تحذيراتٍ للمواطنين في المناطق المحيطة بالسجن بتفادي فتْح الأبواب لأحد إلا بعد التأكد من هويته والإبلاغ عن أي حركة مريبة في نطاق سكنهم “خصوصاً أن بين الفارين مَن يُضنّفون بالخطِرين”.
وفي موازاة ذلك، جاء تَلَقّي السلطات اللبنانية كتاباً من شركة “الفاريز ومارسال” للتدقيق الجنائي بإنهاء اتفاقها مع وزارة المال للتدقيق في حسابات المصرف المركزي بمثابة “قِفْلٍ” جديد أضيف إلى “أبوابِ الثقة” المطلوب فتْحها دولياً وإلى مرتكزات الإصلاحات الشَرْطية التي تنطلق منها المبادرة الفرنسية كما صندوق النقد الدولي لأي دعْم مالي للبنان ولأي تسييلٍ لمقررات مؤتمر “سيدر”.
وفي موازاة الطابع “التقني” الذي جرى التركيز عليه لانسحاب “الفاريز ومارسال” وتحديداً لجهة عدم حصولها على المعلومات والمستندات المطلوبة للمباشرة بتنفيذ مهمتها، وعدم تيقّنها من التوصل الى هكذا معلومات حتى ولو أعطيت لها فترة ثلاثة أشهر إضافية، وذلك ربْطاً بتعقيداتٍ قانونية تتصل بقانونيْ السرية المصرفية والنقد والتسليف، فإن الأبعاد العميقة لهذا التطور تشي بأن “دفْن” التدقيق الجنائي، ولو موقتاً، ما هو “إلا خطوة جديدة في مسار لبنان نحو الجحيم” (وفق تعبير الوزير السابق كميل ابو سليمان) ومن إشاراتِ الأفقِ السياسي المسدود أمام ولادة الحكومة التي يحاول الرئيس المكلف سعد الحريري تأليفها منذ شهر والتي تصطدم بعقبات داخلية تتصل بمحاولات الارتداد على مواصفات المبادرة الفرنسية لتشكيلةٍ من اختصاصيين غير حزبيين بعيداً من لعبة المحاصصة السياسية التقليدية، كما بمقتضيات مواكبة المرحلة الانتقالية في الولايات المتحدة وتَقلُّباتها الحادة المحتملة ولا سيما على جبهة المواجهة بين إدارة دونالد ترامب وإيران وأذرعها في المنطقة.
وإذ لم يحلّ تعثّر التدقيق الجنائي الذي قوبل لبنانياً بتقاذُف اتهامات حول المسؤول عنه برْداً وسلاماً على باريس “المستاءة” من إمعان اللبنانيين في إضاعة الوقت والفرص، برزت أمس تقارير (موقع لبنان 24) عن اتفاق بين أعضاء الاتحاد الأوروبي على تحويل مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى مبادرة أوروبية من أجل متابعة الوضع في لبنان وعن اتجاه لتعيين موفد خاص للاتحاد يُرجّح أنه رئيس الوزراء الايطالي السابق ماتيو رنزي.