أوروبا العلمانيَّة بين الإسلاموفوبيا والبابا فرنسيس!

 

زياد الصَّائغ

 

من السهل تبسيط اشتِداد الأزمة بين فرنسا ? ماكرون والعالم الإسلامي وبالعكس. قُصْرُ الأزمة على تجاوز حدود احترام المقدَّسات، موصولاً بالحريَّات وارتكاب جريمة شنعاء ردًا على ذلك، لا يأخذُ بعين الاعتبار جوهر المشادَّة الحضاريَّة الهوياتيَّة التي تركزَّت تعبيراتُها في العقدين الأخيرين على تصاعُد تطرُّف إسلامي من ناحية، ويمينٍ شعبويّ من ناحيةٍ أخرى، دون أن ننفي البُعد النفوذي الاقتصادي للأزمة المستجدة. في مواجهة ذلك كانت مبادراتٌ عدَّة قادَها الكُرسيُّ الرَّسوليّ في الڤاتيكان، والأزهر الشريف، ومرجعيَّةُ النَّجف كما مجلس كنائس الشرق الأوسط ومجلس الكنائس العالمي، والأُمم المتَّحدة بأذرُعها المُتعدِّدة، ومنتدى تعزيز السِّلم في المجتمعات المُسلمة، ومؤسَّسة أديان، كُلُّها مبادراتٌ تصُبُّ في خانة ترسيخ الاعتدال والأُخوَّة، وبوصلة في خيارات الوئام بين أتباع الأديان.

 

وثيقة الأخوَّة الإنسانيَّة من أجل السَّلام العالميّ والعيش المشترك (2019)، الرِّسالة البابويَّة “كلُّنا إخوة” (2020)، وتجذير السيّد السيستاني لدولة المواطنة المدنيَّة في أكثر من موقِف دقيق (2014)، فمُساهمات العلاَّمة عبدالله بن بيّه المفاهيميَّة الفقهيَّة في الدَّفع بالاتّجاه عينه، وعلى تقاطُع كُلٍّ منها في إعلاء حريَّة المعتقد ربطًا بحريَّة الضمير خُلوصًا إلى التَّساوي في الإنسانيَّة، لم تُفلِح حتَّى اليوم في استبعاد مساحات الاستنفار الغرائزي للانتماءات الأوَّليَّة في كُلّ الأديان، وبالتَّالي انسحابًا على كُلِّ مذاهبها.

 

هذا الفَشَل قائمٌ في التَّلاقُح ما بين الجيو-سياسيّ والعقائديّ – الدّينيّ. رجب طيّب أردوغان مِثالٌ في الإصرار على تدمير كُلِّ إتاحاتِ التَّلاقي الحضاريّ على الأُخوَّة الإنسانيَّة بالخير العامّ. إنسياقُه لتكريس كنيسة آيا صوفيا ? المتحف مسجدًا، ولو من باب التَّدبيرِ السِّياديّ التُّركي، كان إشارةً جليَّة إلى انخِراطٍ في دوَّامة تأبيد الهُويَّة الدّينيَّة على حساب العلمانيَّة المؤمنة التي أراد لها مصطفى أتاتورك الانبلاج توازيًا مع العلمانيَّة الأوروبيَّة، هذه الأخيرة على حِدَّتها في انطلاقتها، إستقرَّت على احترامِ الأديان، كُلّ الأديان، على ألاَّ تنحاز هذه لتعبيراتٍ سوسيولوجيَّة تعتدي على خصوصيَّة العقد الاجتماعي الإنسانيّ الخالِص الذي أرادته في تضاعيف حياتها المدنيَّة. تُركيا العميقة تتساهَلُ مع من يغتالُ إرثها الأقْدَر على مواءَمة الدّينيّ ? القِيميّ مع الحضاريّ ? السِّياسي. لا ينسحِبُ حتمًا هذا الرِّهان على حِقْبَةِ التَّتريك القسري إبَّان الامبراطوريَّة العثمانيَّة كما شناعة الإبادة الأرمنيَّة.

 

في مُقابِل تُركيا تتبدَّى إيران في السِّياق عينه، ولو في اختلافٍ تعبيريّ. حلفُ الأقليَّات الذي تحملُه يخدُم حلْفَ المتطرِّفين. من هُنا يجدُر التَّنبيه من أنَّ مُعادلة التَّوازُن السنّي ? الشيعيّ ليسَت سِوى صاعق تفجير ستستفيد مِنْهُ مشاريعُ إنتحاريَّة على كُلِّ المستويات. النَّجف والأزهر معنيَّان باستعادَةِ زمام المُبادرة مع الڤاتيكان. عدا ذلك سنكون أمام حقائق صِداميَّة من الكزينوفوبيا وتعميم ثقافة الانتِقاماتِ الدَّمويَّة على حدٍّ سواء.

 

في كُلِّ ما سَبق يُقتضى البَحْثُ الكثيف عن كيفيَّة التصدّي للتطرُّف من ناحية، وللإسلاموفوبيا من ناحيةٍ أُخرى على قاعدة اعتبار أنَّ مسألتي الهجرة واللُّجوء تُشكلان عامودًا فِقْريًا في استيلاد هاتين الأزمتين الكيانيّتين القادرتين على الدَّفع باتجاه بناءِ المعازل الهوياتيَّة بغضّ النَّظر عن مستويات هذه الأخيرة وترجماتِها، ما يفرِضُ واقِعًا تفجيريًّا للمجتمعات المتعدِّدة حتَّى ولو تفوَّق فيها القانون نَسَقًا ضامِنًا للحقوق والواجبات. وبالتَّالي تتجلَّى المواطنة الحاضنةُ للتنوُّع، والتي تحملُ مؤسَّسة أديان مع شركاء لها محليين وإقليميين ودَوليّين، على كثير من الرَّصانة العلميَّة في نفي سلبيّتين. السَّلبيَّة الأولى تقومُ في قَوْلٍ بصهرٍ مجتمعيّ يخفي التَّمايُزات الانتمائيَّة. والسَّلبيَّة الثانية تعيشُ في كَنَف تفويقِ التَّمايُزات الانتمائيَّة، من مُنطلَقِ أكثريَّاتٍ وأقليَّات، على فلسفة العيش الواحِد ربطًا بالكرامة الإنسانيَّة والخيرِ العامّ. في هاتين السَّلبيّتين خياراتٌ مأزقيَّة إن استطاعت التَّسيُّد مَقْتَلَةُ حقوق الإنسان كما الحريَّات العامَّة والخاصَّة.

 

أوروبا العلمانيَّة على مُفترقِ طُرُق. الإسلامُ الحقيقي على مُفترَقِ طُرُق. المسيحيَّة على مفترق طرق. ليس تفادي القَوْل بالعلمانيين، والمسلمين، والمسيحيّين أنَّهُم على مفترق طُرق، سوى قَناعةٍ بموجب سَبْرِ أغوار عقائديَّات ما زالت تحتاجُ مقارباتٍ أكثر عقلانيَّة بمعنى تجسُّداتِها المجتمعيَّة، وتعبيراتِها المفاهيميَّة، ناهيك بمندرجاتها السِّياسيَّة ومرتكزاتِها التَّشريعيَّة. خطيرٌ أن يستحيل خُطابُ اليمين الشَّعبويّ، والتطرُّف العُنفي في صميم شهيَّة إعادة تكوين الهُويَّات الدَّولتيَّة.

قَطْعُ رأس صامويل باتي زلزالٌ إسلامي قبل أن يكُون علمانيًا أو مسيحيًّا، والإصرار على حريَّة تعبير استفزازيَّة يتطلَّبُ حكمةً من قبيل اقتبالِ فرادَة المقدَّس عند كُلٌّ آخر، وبالتَّالي البقاء في حيِّز احترام هذه الفرادة. البابا فرنسيس في رسالتِه “كلُّنا إخْوة” يستكمِلُ مسيرةً جريئة في إعلاء شأن حضارة المحبَّة ومُلاقاتُه من بابِ إدانةِ كُلّ عنف واجبٌ أخلاقيّ، وصَوْنِ التنوُّع كغِنىً إنسانيّ مسؤوليَّة جماعيَّة.