بقلم: دينا سليم حنحن
وصل اليهود ليلا إلى ميناء يافا بواسطة البواخر، سكنوا ليلا في خيام أعدت لهم خصيصا، صباحا، لم نجد لهم أثرا، لا خيام ولا ناس، وتكرّرت الحكاية، وصلت باخرة أخرى ليل اليوم التالي، أنزلت فوجا آخر سرّا وتمّ نقلهم صباحا إلى جهات غير معروفة، تجمع اليهود تحت ستار الليل، باتفاق مع بريطانيا، وتواطؤ العرب مع الإنجليز. قال سليم حنانيا.
وأردف قائلا: هرب والدي في النكبة إلى لبنان عن طريق البحر، استأجرت العائلة قاربا كبيرا حمّلهم وحطّ بهم في طرابلس، تاركين بيتهم ومركبهم الصغير في ميناء يافا.
ولدت والدته، أوجيني اللوح سنة 1933 في مدينة يافا، وتعاني الآن من مرض النسيان، استطعتُ استفزاز ذاكرتها، ولو مؤقتًا، فأخبرتني عن الأحداث قائلة:
– كنتُ في الخامسة عشرة من عمري، كُنا جالسين في بيوتنا بأمان الله، وإذ بقذائف انطلقت من منطقة بيت غان، أطلقها اليهود علينا، فأصيب الناس بالذعر، فقررنا الخروج سريعا، استأجرنا سيارة شحن (تراك)، صعدت، العائلة بأسرها، وكذلك عمي وعماتي، ورحلنا، بتنا ليلة في اللد عند قريبة لنا تدعى سلطانة متزوجة من بيت الحصري، خالة والدتي، لا أذكر من هذه الليلة أي شيء، ثم أخذنا طريقنا نحو الأردن مباشرة، اتخذنا طريق القدس ورام الله، وبئر زيت، لكن قرّر والدي النزوح إلى لبنان لعدم حصوله على عمل يعيلنا، فشددنا الرحال إلى طريق مجهولة لا يعلم والدي عنه شيئا، كان هدفنا الوصول عند ابنة خالي، وأقامت في منطقة تدعى جلّ الذيب، ثم استأجر والدي بيتا من رجل يدعى سعيد البستاني في جونيه وسكنّا فيه.
ضاعت الذاكرة القصيرة للسيدة أوجيني، وأكمل ابنها سليم الحديث قائلا:
– نزح الناس من يافا جماعات، أغلقوا أبواب بيوتهم وأخذوا المفاتيح معهم، ذهبت الأكثرية إلى الأردن، قالوا لهم: (روحوا عند عبد الله)، تركوا بيوتهم بنيّة العودة، وهناك عائلات تركت أبناءها وغادرت على نيّة العودة بعد عدة ساعات، هكذا قالوا لهم، أذكر امرأة من بيت الحاطوم، نزحت وحدها وبقيت وحدها في لبنان، بكت عائلتها سنين طويلة، وأكلتها الوحدة والخوف، والتقت بإخوتها بعد خمسين سنة من الهجرة.
خشيَ الناس على بناتهم من اليهود لذلك هاجروا من البلد، لكن وللأسف، في الهدنة، لم يعد والدي لأنه خشي من العودة.
عمل والدي، توفيق اللوح، وعمي زكي إبراهيم اللوح، معا بالسّمانة، بعد تسع سنوات طالب المالك بالبيت، فاضطررنا إلى الرحيل معا إلى بيروت، فاستأجرا، والدي وعمي حانوت سمانة.
بقي عمي الثالث في يافا، ويدعى خليل، كان قد أرسل عائلته مع إخوته، وأبنائه وزوجته، لكنه لحق بهم سنة 1952، فتشارك الأخوة بشراء عقار واستقروا جميعا في بيروت، بعد مدة وجيزة انتقل والدي إلى المزرعة، واقتنى حانوتا وعمل وحده.
وصل النازحون إلى دير مار الياس، أغلقت المدرسة التابعة للدّير لاستيعاب المهجرين، دير مليء بأشجار السّرو، بلغت مساحة الحديقة نصف كم مربع، تآوى فيها النازحون، نصبوا الشوادر لتقيهم من الحرّ، ثم تحول فيما بعد إلى مخيم.
حياتنا معاناة كبيرة، شقاء وتعاسة وقهر، اضطررنا للعمل في أعمال حرة فقط، في العمار أو أشغال يدوية، خرجنا من لبنان لا نملك جنسية لبنانية، رفضها والدي وحلم بالعودة إلى فلسطين، لذلك لم نستطع التقدم في الحياة، إن كان من ناحية التعلم، والتثقف، أو العمل في أعمال أخرى، والتوطين، حضرنا أيضا الحرب الأهلية اللبنانية، من بداية 1973، وعشنا جحيما لا يشبه أي جحيم، وتعرضنا للخطر المهيب عدة مرات، أنا شخصيا لم أستطع الخروج من منطقتي مدة عشرين سنة، حرب وضرب، كانت بين عون وخصمه، حرب على الهوية، لم يستطع الفلسطيني الذهاب إلى الشرقية، من أيام تل الزعتر وغيرها، أضافت إلى خساراتنا خسارات أخرى بسبب أحداث عون، وأحداث الفلسطينيين والجيش اللبناني أيضا.
في الاجتياح الإسرائيلي، تفجر البيت ونزل على الأرض، بدأت في بناء البيت من جديد، لملمت كسر الحجارة لملمة، انتقلنا للعيش في ملعب كرة قدم بجانب الدّير ريثما أنتهي من البناء، استخدمنا غرف ملابس الملعب، واستحممنا في الحمامات الجماعية، كانت حياتنا صعبة جدا، اُغلقت المحال، واستصعبنا إيجاد المؤونة، أغلقت صالونات الحلاقة أيضا، فظهرنا مثل المشردين، شعورنا طويلة وملابسنا قديمة، يعني بالمختصر المفيد حياة بهدلة في بهدلة.
لم تنته المصائب حتى هنا، قام مجهولون بتفجير محلنا وسيارتنا، ربما بسبب الغيرة، أو بسبب بيعنا للمشروبات الروحية، هناك رجل فلسطيني، باع لحم الخنزير فجروا له محله أيضا، ورجل آخر في عنده محل للمشروبات الروحية في الحمراء، فجروا له محله، لم نعرف من المعتدي، وسجلت هذه الأحداث ضد مجهول، بلغت خسارتنا 50.000 ليرة، ما يعادل 3000.00$ وذلك سنة 1982.
عانينا القهر والعذاب، وتأثر وضعنا المالي والاجتماعي، ضاع جيل بأكمله، لم نتعلم حتى نرتاح من مشاق الأعمال الشاقة، جيلنا مسلوب، استطاع الفلسطيني التعلم، وتبوّأ المناصب، في الأردن وفي سوريا، وفي الخارج، لكن في لبنان كان هذا من المحال.
سنة 1990 ذهبنا إلى سوريا، اجتزنا طريقا خطرة، وصلنا إلى السفارة لطلب اللجوء من لبنان، غامرنا بمخاطر الطريق، وعدنا في اليوم ذاته بعد أن قوبلنا بالرفض، الآن، أصبح كل واحد فينا في منطقة مختلفة في العالم، هربنا من لبنان هريبة، أحدنا هرب إلى السويد، أما أنا، فجمّدوا لي الجواز وأعادوه لي بعد سنة، لذلك لم أستطع اللحاق بأخي إلى أستراليا، وبقيت في لبنان دون عمل ودون دراسة.
سنة 2005 نزحنا إلى أستراليا، استطعنا الخروج من لبنان أخيرا، بعد أن خسرنا العمر وكل شيء، نزحنا وتركنا والديّ وحدهما في لبنان، فتعرضنا إلى التوبيخ من الأقارب والجيران، وتعرضنا للمساءلة والتحقيق، توجب علينا الانتظار مدة غير محددة داخل أستراليا حتى تتم المعاملة، يعني لم تكفنا مصائبنا، وإذ بالآخرين يتدخلون في حياتنا الشخصية، صبرنا حتى هرب الصبر منا.
تحسنت أحوالنا، لكن منذ 13 سنة، لم أستطع تثبيت والديَ حتى يحصلا على الجنسية الأسترالية، لأنهما مُسنان، فخضعا لشروط الهجرة هنا، هما الآن برعايتي، لا يتمتعان بأية ضمانات وحتى الضمان الصحي، رفضت عودتهما وحدهما إلى لبنان، بما أنهما وصلا بدون فيزا إقامة، ما زلنا نعاني من شروط الهجرة الصعبة حتى الآن.