أحمد الكناني

تصادف هذه الايام الذكرى السبعمائة لرحيل اديب ايطاليا دانتي أليفييري ، والتي تجلب معها حديثاً يكاد لا ينتهي حول السرقات الادبية والاقتباسات النصية ، و معراج دانتي الذي سرده في روايته الشهيرة الكوميديا الالهية صارت علكة يلوكها الكتّاب العرب في كل مناسبة تذكرهم بدانتي ، وهم بالتأكيد لم يكشفوا مغطىً ان قالوا وان كتبوا ، وانما هي كتابات المستشرقين الايطاليين والاسبان ومقارباتهم بين الاسلام وخلفياتهم الفكرية ، حتى ان احدهم كتب بحثاً عنوانه « دانتي والاسلام « ، وانهم وجدوا ترجمات فرنسية لكتاب المعراج للقشيري لعل دانتي اطلع عليها ، كما عثروا على مخطوطات تحمل عنوان « معراج محمد « مترجمة عن اللاتينية تعكس التشابه الكبير بين الكوميديا الالهية وكتاب المعراج ، ولعل ابرزهم المستشرق الايطالي انريكو في كتابه « المعراج والمصادر العربية والاسلامية للكوميديا الالهية « وكان قد الّفه حين كان سفيراً لايطاليا في طهران ، وقد اطّلع على روايات المعراج في كتب التراث الاسلامي مما سهل عليه عملية المقارنة ، وادرج خلاصة ما توصل اليه من ان دانتي في الكوميديا الالهية لم يكن مبدعاً في عمله الادبي وان مصادره عربية اسلامية .

والسؤال : هل ان الكوميديا الالهية حقاً اقتباس صرف من رواية المعراج المحمدية ؟

نعم هناك تشابه كبير بين الرحلتين …

عروج النبي محمد الى الملكوت وارتقاءه من الارض الى السماء جاء ذكره في آيات القرآن واستغرق الرواة في سرد تفاصيله ، وهو يتنقل بين طبقات السماء السبع برفقة جبرئيل رأى أُناس يعذبون في الجحيم ، في صور رسمتها رويات المعراج بمخيال بشع جداً ؛ كتلك النسوة اللاتي عُلقن من أثدائهن … وعند السؤال عن الجريمة التي اقترفن ؟ يجيب جبرئيل انهن لم يسترن صدورهن …

او النساء المعلقات من شعورهن حيث كن من اولئك النساء اللواتى لا يغطين شعورهن من الأجانب…

اما رحلة دانتي الليلية فكان يتنقل ايضاً بين طبقات السماء برفقة فرجيليو حيث يدخل باب الجحيم وعالم الخفايا والاسرار ، ويسمع صرخات المعذبين وعويلهم … في صور لم يرسمها دانتي بالبشاعة التي رسمتها براعة الرواة ، لكن صرخاتهم وصفها بأنها احدثت دويّا اشبه بعاصفة هوجاء ، هناك بكى دانتي من هول ما سمع …

وفي مسيره بين طبقات السموات التسع يرى دانتي حشداً عراة الاجسام وقد اطبقت عليهم الحشرات تلسعهم

وتدمي وجوههم ويختلط دمهم بدموعهم ويسيل على الارض وتلتهمه ديدان كريهة مزعجة عند اقدامهم …

الا ان فرجيليو كان يبرر سبب العقوبة بأنهم لم يعملو في الدنيا الا لمصلحتهم الذاتية ، ولذلك طرتهم السماء حتى لا ينقصوا من جمالها…

والآخرة كما يصفها دانتي مكونة من ثلاث عوالم : الجحيم والمطهر والفردوس ، وكل من تلك العوالم يتألف من تسع طبقات ، و مكان وجود الشيطان في قاع الجحيم، و في أعلى المطهر توجد حديقة عدن، و عرش الرب في الفردوس الاعلى

اذن التشابه بين المعراجين موجود في كل الاحوال ، بصبغة اسلامية في المعراج المحمدي و بصبغة مسيحية في المعراج الدانتوي …

ربما استلهم دانتي حواراته في الكوميديا الالهية من قصة المعراج النبوية .

ليس دانتي فقط …

شاعر الفلاسفة ابو العلاء كان ملهما في صياغة حوارات الشعراء في الجنة، ومصدر الهامه قصة المعراج النبوي اذ كان قاب قوسين او ادنى من الملكوت الأعلى، الِهامٌ جليّ في رسالة الغفران يظهر مدى تاثير الرحلة الليلية للنبي محمد على صياغة الحوار بين الاعشى من جهة وبين الجعدين النابغة الجعدي والنابغة الذبياني من جهة اخرى؛ بسبك كاروع ما يكون الابداع الادبي و المسرحي .

حواريات رسالة الغفران استلهمت طه حسين ايضاً في كتابه « مع ابي العلاء في سجنه « فكانت رائعته الحوارية مع ابي العلاء على ضفاف شواطي نابولي وهو يلومه على تشاؤمه وعزلته:

«كنت احدث ابا العلاء بأن تشاؤمه لا مصدر له في حقيقة الامر الا العجز عن ذوق الحياة والقصور عن الشعور بها..

وكان ابو العلاء يقول لي: فانك ترضى عما لا تعرف وتعجب بما لا ترى..

وكنت اقول له: ان لم اعرف كل شئ فقد عرفت بعض الاشياء، وان لم ار الطبيعة فقد احسستها..

وكان ابو العلاء يقول لي: تبيَن ان استطعت حقيقة ما نعرف فسترى معرفتك مشوهة..

كنت اسأل ابا العلاء: ايهما خير ان تلم بنا اسباب النعمة قوية او ضعيفة ، صحيحة او كاذبة فنتشبث بها ونشد بها ايدينا وانفسنا.. ام ان تعرض لنا فنعرض عنها وتقبل علينا فنمتنع عليها ولا نحصل من الحياة الا ما حصَلت من خيبة الامل وكذب الرجاء..

وكان ابو العلاء يجيبني ببيته المشهور: ولم أُعْرِضْ عن اللّذّاتِ إلاّ لأنّ خِيارَها عَنّي خَنَسنَه

جلال الدين الرومي في ديوانه المثنوي وفي القسم الثالث منه ينفرد بحوارية شعرية يتيمة ، حاول من خلالها استلهام الصراع بين موسى وفرعون في النص التوراتي القرآني وأجاد في طرح معتقداته الصوفية في إطار تلك الحوارية . اذن هو الهام يعترض الادباء وهو ما يسمونه العرب بشيطان الشعراء .