ثمة مفارقة تاريخية تحدثنا عنها المصادر والوقائع معا، وهي أن المنعطفات التاريخية الكبرى في حياة الشعوب فكريا وجماليا تكون حواضنها الأثيرة في التفاصيل الدقيقة ، وتراكماتها عبر مبدعين ينتمون للحياة كحقيقة كبرى.
عندما نفكر في خلق الإنسان كخلاصة نهائية للحياة الحيّة على كوكبنا الأرضي ، سنجد أن سر الخلق سواءً في نظرية النشوء والارتقاء أو في الفكر اللاهوتي لا تتعدى بدايتها الصغرى .
خلاصة حياة الانسان وانتصابه لا يتعدى حفنة طين نفخ الله فيها الروح ، او خلية واحدة تطورت الى ما هو عليه الانسان المركب .
……….
التأمل في خلق الكون سنجد مفارقة ثانية ربما تناظر خلق الانسان.
فالله قد خلق الكون كله في ستة ايام بكلمة « كن «، ونظرية الانفجار العظيم تعزو تكوين العالم الى لحظة انفجار ، لحظة واحدة فقط .
تفاصيل دقيقة ولحظات حاسمة هي التي انتصب بها الانسان والكون
………
من هذه البداية نشأت الحاجة الى تراكم نوعي للوعي بالظواهر الفكرية والجمالية والاقتصادية والسياسية بوصفها حساسيات متراكمة كمية وصولا الى نوع مفهومي.
عندما يتحدث باشلار عن الموقد، سيجعل الموقد خميرة لرسم خارطة كلية للمشاعر والعواطف والوعي.
من المدينة يرسم محمد خضير نزوعا جماليا للغوص في تفاصيل الاشياء ، يرسم مدينته بحلم لينتهي الى اقنعة لابد من نزعها .
عند محمود عبد الوهاب يسيطر الشتاء على الزمن فينتج لنا رائحة الموت كفكرة كلية عن تمام الانسان ازاء الخليقة والكون ، الموت كمفارقة عادلة .
بدر شاكر السياب يمضي مع الزمن السائب في «المومس العمياء» وينحدر مكانيا في رثاء النهر – بويب- لينتصر للبحر في بكائية غامرة بنصه الشعري الغنائي – غريب على الخليج-.
البداية دمعة ايضا .
…….
في حكاية الامبراطور العاري، تبدأ الحكاية باغماض الحواس، بمراس الحواة ، بغفلة الامبراطور، ثلاثية تهجس بالمعقول ، رحم سادر بها ، جمهور مُغيب الاحساس.
طفولة تندس في الزحمة ، تصرخ ببراءة ، الحشود تمضي في العماء ، ولكنها لحظة البصيرة ، تتعالى من صرخة طفولة :
الامبراطور عارٍ
يقظة تحققها سبابة طفل .
لا تعطلها مكائد دهور .
…….
في لوحة سلفادور دالي « الزمن المائع «
هناك تأمل لمعرفة الثابت والمتحول .
التفاصيل مكرورة للحظة ماكرة مجعدة .
الطبيعة سائلة أمام اسئلة الوجود
…….
في مشهد العتمة « ليس هناك عبودية …هناك رجال عبيد «
يبدأ العبد مرانه من التاج من اغلاله، كما يبدأ الشرطي يومه الأول في أول هسيس صوت السوط من سيده .
العبودية داء من رحم التفاصيل.
…….
في وأد الحلم لا بد من غياب للعقل ، في تقريظ الطبيعة لابد من الخيال
التفاصيل في العطر ، لا في الانتصاب.
الوهم يداعب المخيلة لعبودية ثانية
……
في مشهد اللامعقول
يقف شكسبير متوسلا «صموئيل بيكت « أن يوقف زمنه لاعتذار غير مشروع.
المظلات السوداء لا تليق بالأفق الرمادي
لا مطر
لا صحو
التفاصيل الدقيقة في هواجس ابطال المسرحيات.
ماركس إختار الإقتصاد محركاً للتاريخ ، فرويد اختار الجنس ، نيتشه إقترح الإنسان السوبرمان ، هؤلاء أصحاب المنعطفات الفكرية الكبرى في التاريخ البشري قدموا خلاصاتهم الكبرى ومشاريعهم الصادمة عبر تفاصيل مخصوصة .
هكذا يجب أن نقرأ التاريخ من خواصره الرخوة ، من الحوادث الهامشية غير المتفق عليها ، من الأخبار الضعيفة التي لم ترجحها كتب التاريخ المكتوبة بأقلام المنتصرين وبدم المغلوبين .