بقلم كمال براكس

ليل مدلهم مدجدج , وظلام قاتم مقفهر , وسماء مُلبَّدة بألغيوم , وريح هوجاء عاصفة , وبرق يخطف البصر , ورعد تهتزُّ منه اركان المنازل وجدران البيوت , وأمطار تنهمر مدراراً فتُحَّول الشوارع والأسواق الى انهار فيّاضة , ثم تلك الرهبة المشؤومة , التي أطلَّت بوجهها البائس المكفهِّر , على مدينة زحلة فأدخلت الرعب في قلب كل من يجرأ , ان يتجوَّل في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل , خوفاً من النفوس الشريرة , المتعطِشة , لسفك الدماء البريئة , التي تتحرَّك متشدِّدة متجاسرة , لوثوقها بأن الغسق سيخفي اثار الجريمة ويمحو معالمها .

          في مثل هذه الساعة المخيفة الرهيبة , وبينما الناس قاطبة , قد غرقوا في بحر النوم الهادئ , على فراشهم , الناعم , الوتير الدافئ,

  كانت فتاة خائرة القوى , تكاد تجود بروحها , من تأثير قشعريرة برد شديد قارس, سَرَت في جَسَدِها المهزول , الذي لا يستره غير قميص شفّاف , اقرب الى خرقة بالية , منها الى ثوب يصلح اللبس .                                                لكن يد الموت , تعبثُ بها , لتنتزع روحها من صدرها , غير مشفقة على شبابها الغض , ولا رحمة لصباها النضر , وأنَّى للموت ان يشفق او يرحم , وهو القوة الجبارة التي لا تعطف ولا تلين .

      مرَّت ساعات , وبدأت الفتاة تئن انين الأحتضار , وتتفرَّس ملامحها الشاحبة , على نور المصباح الخافت , تعدُّ انفاسها خاشعة الطرف واجمة , مضطربة القلب ملتاعة , يَشِع من عيناها بريق النبل والشرف , ويبدو في نظراتها الحائرة , من قَهر الأيام ومحن الدهر , التي رافقتها في جميع ادوار حياتها المعذبة , فسَّدت عليها سبل السعادة , واحاطت بها من غير ان ترحم او تنثني .وفجأة زفرت الفتاة زفرة طويلة , ثم تَنهَيدة عميقة , خرجت من صدرها الناحل , وأخذت تُرَّدد بصوت كالهمس : امي ؟ جرعة ماء .

وكانت عجوز بقربها وهي امها وسمعتها , وكأنما قد دَبَّ في جسدها عنفوان الشباب متوجهة الى زاوية الغرفة , وتناولت منها كوباً ملأته ماء ثم قَرَّبته من شفتي العليلة التي اكتفت بجرعة منه  , ثم أسندت رأسها الى وسادتها غائبة عن الوجود .                                                                                    وسادَ السكون الرهيب للمرة الثانية , ولم يكن لِيُعَّكر صفوه , غير قصف الرعد وهطول الأمطار , وانتاب الفتاة هذيان شديد , كانت تنطق في اثنائه بكلام غير مفهوم , حتى ظنَّت العجوز امها ان ذلك حشرجة الموت.       

  لكن الفتاة جَمَعت قواها المنحلة , وافكارها المشَّتتة , وكأن الروح قد عاد اليها مُجَّدداً , بعد ان فارق جسدها لحظة ,                                                      وعندما كان سعيد الحاجب مستلقياً على فراشه , شَعَرَ فجأة بقشعريرة تسري في عروقه , فهَّبَ من نومه مذعوراً , لا يدري لها سبباً , وحاول كثيراً ان ينام , فكانت محاولته ضرباً من العبث . فقام الى النافذة , وجلسَ امامها مرسلاً بصره الى المنزل المجاور , ورأى من خلال صير الباب نوراً ضئيلاً ينبعث منه . فأيقنَ ان الفتاة بها شيئ . ولعبت في رأسه الوساوس والأفكار , ثم صار يتأمل هذا الضوء في المنزل المتداعي , وفي ساعة متأخرة كهذه , فأدرك ذلك على الفور , بأن الفتاة في خطر , لاسيما وقد مضى عليها مدة طويلة لم تزر الطبيب , مع انها أنبأته منذ اسبوعين باشتداد المرض عليها واشرافها على الموت , فهَّبَ الى معطفه الصوفي فارتداه , وترك غرفته دون ان يَدع زوجته تشعر بخروجه , متوجهاً الى المنزل الحقير ليستطلع الخبر.                                                                             دوَّى في ارجاء البيت الحقير , طَرَقات قوية على بابه المضعضع الدعائم , ارتعدت منه الفتاة وذعرت , والقت حولها نظرة رعب وجزع , وظَهَرَ في معالم وجهها المخافة والرهبة ثم عاودها الأغماء . واذ برجل تَقَّدم من المصراع , واسرع بالدخول خشية المطر المنهمر . وما توسَّط الغرفة العارية , حتى وَقَعَ بصره على الفتاة , وكانت حالها تثير المهابة والخشوع .فجحظت مقلتاه وشحب لونه .ثم قال بصوت من ابصر شيئاً هاله وأفزعه .

كان الرجل سعيد الحاجب هذا شيخاً وقوراً يدل على مظهره , النبالة وعلو الهمة والمروءة , وكان قريباً الى القلوب , اذ لم يقع نظر مخلوق عليه الاّ احَسَّ بالركون والطمأنينة اليه , وقد مَنَحه الله مالاً كثيراً , فأعطى السائل والمحتاج   وبينما الأمطار تتساقط في الخارج , مُتَجمعة في الطريق الضيق , ومُكونة مستنقعاً , يصعب على المار سبيل اجتيازه , وبينما الرعد يطنطن والبرق يلمع , والظلام المشؤوم يُعَّكر صفاء النفوس الآمنة , كان سعيد الحاجب قد أخلى بيت الفتاة , غير مكترث للباب الذي تركه وراءه مفتوحاً , واجتاز الطريق , حاملاً الفتاة بين ذراعيه , متوجهاً بها الى قصره , الذي يبعد بضع خطوات , ولم تتبعها العجوز التي هي اصلاً امها وبقيت في البيت .                                                     وكانت المياه تُبَلل ثيابه وتخترقها حتى جسده , دون ان يحفل بذلك , لأن همُّه الوحيد هو ان ينجد محمله ويقطع به منطقة الخطر .                                    بعد جهد كبير وصلَ اخيراً الى قصره , فوجد الريح الهوجاء قد أغلقت الباب خلفه .لقد تَرك سعيد الحاجب منزله من غير ان يدع احداً يشعر بخروجه . اذ كان كل من فيه نائماً . لكن تراءى لأبنه فؤاد , رؤيا ازعجته , ومنعت عنه رقاده , فَهَّب قلقاً من فراشه , يتلمس النافذة , وسط الظلام الدامس الذي خَيَّم في غرفته , فجلس امامها يُمتع باصرته بمنظر الطريق المظلم , ولكنه سَمَع فجأة وقع أقدام في ردهة القصر , فادركَ ان مخلوقاً يجتاز الدار , فتحصَّنَ بردائه وخرج على أطراف اصابعه , غير انه دُهشَ لما رأى والده يسعى للخروج خفية , وفكَّر انه لو لم يكن هنالك ما اضطرهُ لذلك لما فَعَلَ ذلك , ودفعه فضوله ليتبعه غير مبال بالأمطار , ثم شاهده يدخل بيت العجوز , وأكتفى بالنظر من قدح الباب ,                                                 وبعد ان خرج سعيد الحاجب بيت العجوز حاملاً الفتاة بين ذراعيه , تاركاً العجوز اي امها تتخبَط خبط عشواء , دخل فؤاد المنزل الحقير , فوجد بابه مفتوحاً , ولقد عجب ما رآه , فوجد العجوز جثة لا حراك فيها    فهم كل شيئ لأول وهلة , فأستولت عليه الخيفة , ولا سيما لما وجد امامه جثة هامدة , وفي غرفة لم يزل شبح الموت حائماً عليها , وهَّمَّ بأن يخرج لا يلوي على شيئ , لكن فَكَّرَ في تلك المرأة المسكينة , بل فكَّر في جثتها , فلم يرى من المروءة ان يدعها في بيت متداعي الأركان , وليس بقربها احد يقوم على حراستها , ففضَّل ان يجيئ بها الى قصره , ما دامت الأبواب مفتوحة للبائسين الأحياء تُخَّفف من ويلاتهم , ومآسي جراحات قلوبهم .                                                                وسار فؤاد نحو باب غرفة الفتاة وانساب الى الداخل , كما تنساب الحية في حجرها , وفي هوادة وسكون اغلقه كما كان , فهَّمَّ ان يقترب من سريرها , ولكن الخوف منعه من ذلك . وبعد تردُدِ طويل , فدنا من السرير , ولما اصبحَ بجانبه , جثا على ركبتيه , ورفع الستار المسدول عليه بيد مُرتجفة , فظهرَ وجه الفتاة الغائبة عن الوجود , ببهائه وتناسب اعضائه .

نظرَ فؤاد الجمال الأروع الخّلاب , قد اخفاه الفقر وسَتَرَه العوز .اجل هوذا الجمال الفاتن  في بيوت الفقراء والمعدمين , الذي حَجَبَه عن العيون رداء الفاقه مع الطهر والعفة , لكنهم حَسَبوا ان الشرف في المال , والرفعة في النسب , وهذا هو ذنب جشعهم واستكلابهم .

تَرَقرقت دمعة في مآقي الشاب من دون ان يعلم لها سبباً , وخفق قلبه , فَهَّمَّ بأن يدنو بنفسه من فم الفتاة , ويطبع على شَفَتيها قبلة حارة , غير انه خشي ان تفيق من غيبوبتها فينفضح امره . فَفَّضل ان يتأمَّل وجهها النضر الذي رُسم الهم على صفحتيه التعس والشقاء فزاده حسناً وبهاء . عندها زَفَرت الفتاة زفرة الموت , لتلاقي ربَّها في جنة الخلد .