ابراهيم بيرم

قبل أقل من يومين أطل عضو تكتل “لبنان القوي” والقيادي المعروف في “التيار الوطني الحر” حكمت ديب من على إحدى شاشات التلفزة، ليطلق “جملة ثوابت” من شأنها أن تستشرف مستقبل العلاقة بين التيار البرتقالي و”حزب الله”، وتبدد مجموعة انطباعات تكونت عن واقع هذه العلاقة، فحواها أن وثيقة تفاهم مار مخايل التي أبرمت عام 2006 بين الطرفين والتي صارت معلما من معالم دورة الحياة السياسية خلال الأعوام الخمسة عشرة الماضية، “لم تسقط ولم ينته مفعولها بعد”.
ويقر في الوقت نفسه، بتباينات ورؤى متعارضة بين طرفي التفاهم حيال العديد من الملفات، معتبرا أن في طيات التفاهم إياه ثمة تفاهم على استقلالية كل طرف برأيه حيال مواضيع طارئة أو ملفات وقضايا قديمة، أي أن التفاهم ضمن حق الاختلاف أيضا.
اللافت أن النائب ديب ابن الحدت، قد بذل جهدا وهو يدفع عن التيار شبهة اعتراضه على “سلاح المقاومة” وانتقاده لهذا السلاح، معددا مواقف مشهودة للأب الروحي للتيار الرئيس ميشال عون ولرئيس التيار جبران باسيل في محافل دولية وعربية، دافعا فيها بجلاء عن ما يشرع وجود هذا السلاح وهو المخاوف من الاحتلال الاسرائيلي وأطماعه وعدوانيته، موحيا بأن كلاهما لم يبدلا ويغيرا من قناعتهما .
والواضح أن هذا الخطاب المعلن كان أكثر من ضروري، إذ أن فيضا من التحليلات والقراءات استنتج في الأيام الماضية ولا سيما بعد الظهور الاعلامي الأخير لباسيل، والذي تعمد خلاله الإضاءة على قضايا خلافية، كمثل زيارة رئيس المكتب السياسية لحركة “حماس” اسماعيل هنية إلى بيروت، وبدا وكأنه لا يعارض الدعوة التي أطلقت إلى “الحياد”، لا سيما أيضا مضمون المؤتمر الصحافي الأخير للرئيس عون والذي بدا صريحا في عدم تبنيه تمسك “الثنائي الشيعي” بوزارة المال، وتذكيره بأن لا نص قانونيا يجيز لمكون طائفي أن يعتبر حقيبة وزارية ملكا سياسيا دائما له، مما أباح لمن يعنيهم الأمر أن يجدوا في المحطتين مؤشرين على انفراط عقد تفاهم مار مخايل الذي حكم المسار السياسي في المرحلة المنصرمة، ومؤشرين على أن التيار البرتقالي قد وقع أسير الضغوط والتهديد بسيف عقوبات مالية آت على غرار ما حل بالوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، وبالتالي آن له أن يبدأ مسيرة سياسية مختلفة، بل ربما تعاكس مسيرته السابقة والتي اعتمدت بشكل واضح على ذلك التفاهم مرتكزا وسندا وعضدا حقق له حزمة مكاسب.
وبناء عليه، أتى كلام ديب ليشكل حدا يحول دون مضي “الشامتين” والخائفين على حد سواء، في تكهناتهم واستنتاجاتهم المبنية على أمرين اثنين. الاول: أن الثنائي والحزب على وجه التحديد صار معزولا ومستوحدا، وأن التيار البرتقالي مضطر أن يعيد تقديم نفسه بشكل مختلف للداخل والخارج، لكي يبقى لنفسه مكانا في المسرح السياسي المزدخم بالاحداث الدراماتيكية والتحولات العميقة.
واللافت أن حيال كل هذه الوقائع والمعطيات والتي استولدت كل هذا الكم من الاستنتاجات، بقي “حزب الله” معتصما بالصمت فلم يبادر إلى التعليق سلبا أو إيجابا، ولم يرد في الوقت نفسه على تلك المواقف التي أطلقها التيار البرتقالي، وأدرجت في خانة علامات الطلاق البائن بينهما، وأعطيت كدليل على ان التيار قد وقع فريسة الضغوط والتهويل ويعمل على استدراك وضعه والنجاة بنفسه.
ولا تخفي الجهات المعنية بالموضوع بالحزب “اطمئنانها” بأن التيار البرتقالي، لا يمكن له أن يخرج بشكل مفاجئ من حضن تفاهم أبرمه قبل عقد ونصف عقد من السنين، مبعثه أمور ووقائع عدة توفرت أخيرا أبرزها:
انه رغم كل ما بدا أنه تحول في مواقف التيار الوطني الحر، بقيت قنوات التواصل المعتادة بين الطرفين تفعل فعلها وتؤدي دورها.
أكثر من ذلك، بقي رئيس التيار يبعث برسائل فحواها انه ليس في وارد التحلل من موجبات التفاهم، وان كان قد افترق عن الحزب بمواقف عدة كان آخرها ما تناهى الى علم الحزب من كلام قاله باسيل أمام الدائرة الضيقة من كوادره وفحواه اننا لن نساهم في عزل كون لبناني حتى وان وقعت علينا عقوبات مالية، فالامر عندنا مبدئي.
كان لباسيل جرأة القول في صرح الديمان، وفي وقت كانت راية الدعوة الى الحياد تعلو يوما بعد يوم، أنه يتعين أن لا نفرط بأوراق القوة التي نملكها في لبنان، وفي هذا القول ما فيه من الابعاد.
ان قيادة الحزب لم تستشعر يوما على رغم كل المعلومات والتأويلات التي ضخت في الاعلام والوسط السياسي عن دنو انتهاء مفعول تفاهم مار مخايل، وان قاعدة الحزب قد انتابها خوف أو تبدل ورأيها المعهود تجاه التيار وجمهوره، فهذا ينم عن حجم ثقة الحزب وجمهوره العريض بثبات التيار، وبأنه لم يعد ذلك التيار المتموج المتمايل الذي يمكن التأثير عليه، أو أخذه الى حيث يرغب الآخرون، فهو ما زال على ثوابته رغم أن ثمة اختبارات عدة مرت، وكان يمكن أن يتخذها ذريعة للانقلاب والتراجع.
وفق كل ذلك، فإن الحزب على قناعة ضمنية بأنه لم يكن ينتظر أساسا من التيار أن يماشيه على “العمياني”، بل ضمن التفاهم معه على حق الاختلاف في محطات عدة، وحق طلب إدخال مقاربات أو تعديلات جديدة على التفاهم، والمفارقة أن كثر في الساحة اللبنانية، لم يعتادوا على هذا النوع من التفاهمات المرنة التي يمكن لها ان تصمد وتملك القدرة على التكيف.

إلى ذلك، فإن الحزب لا يخفي ان التفاهم بينه وبين التيار كان وما زال تفاهم الضرورة والحاجة لكليهما، وقد بدأ في لحظة كان كلاهما يستشعران أن ثمة هجمة شرسة عليهما لاقصائهما وتهميشهما، وهو استمر لأن الاخرين لم يبدلوا تبديلا، لذا ما زال هذا التفاهم بعد عقد ونصف عقد على إبرامه كما بدأ تفاهم الضرورة والحاجة، ولعل أبرز تجليات هذه الحاجة تتبدى في المحافظة على أكثرية نيابية هي ضمانة ولا ريب للأطراف المشاركة فيها تعصمها من محاولات اضعاف حضورها وتأثيرها وفعلها.