بقلم المفكر الكبير السيد الشهيد الصدر

يسر مسجد السيدة الزهراء عليها السلام في ذكرى شهادة الإمام علي بن الحسين عليه السلام، ان يقدم ما ذكره السيد الشهيد محمد باقر الصدر طاب ثراه في تقديمه للصحيفة السجّادية المعروفة بـ «زبور آل محمد» صلى الله عليه وآله وسلم. وهي تحتوي على المضامين والمفاهيم الإسلامية العالية وبأعمق آداب الدعاء والمناجاة…

ولقد كُتبت حول الصحيفة السجادية شروح متعددة ومنها الشرح المختصر للعلامة الأستاذ الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله. ومن الضروري ان نشير الى ما ذكره وبإختصار لأهميته ولفهم أبعاد أدعية الصحيفة.

«بعد واقعة ألطف المحزنة وتملّك بني أمية ناصية أمر الأمة الإسلامية، فأوغلوا في الإستبداد وولغوا في الدماء واستهتروا في تعاليم الدين، بقي الإمام زين العابدين سيد الساجدين» (عليه السلام) جليس داره محزوناً ثاكلاً وجليس بيته لا يقربه أحد ولا يستطيع أن يُفضي الى الناس بما يجب عليهم وما ينبغي لهم».

فاضطرّ أن يتخذ من أسلوب الدُعاء الذي قلنا انه أحد الطرق التعليمية لتهذيب النُفوس وذريعة لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وطريقة آل البيت، ولتلقين الناس روحية الدين والزّهد، وما يجب من تهذيب النفوس والأخلاق وهذه طريقة مبتكرة له في التَّلقين لا تحوم حولها شبهة المطاردين له، ولا تقوم بها عليه الحجّة لهم، فلذلك أكثر من هذه الأدعية البليغة، وقد جمعت بعضها (الصحيفة السجادية) التي سمِّيت (بزبور آل محمد) وجاءت في أسلوبها ومراميها في أعلى أساليب الأدب العربي وفي أسمى مرامي الدين الحنيف وأدق أسرار التوحيد والنبوة، وأصحّ طريقة لتعليم الأخلاق المحمدية والآداب الإسلامية، وكانت في مختلف الموضوعات التربوية الدينية، فهي تعليم للدين والأخلاق في أسلوب الدعاء، أو دعاء في أسلوب تعليم الدين والأخلاق، وهي بحق بعد القرآن ونهج البلاغة من أعلى أساليب البيان العربي وأرقى المناهل الفلسفية في الإلهِّيات والأخلاقِّيات.

فمنها ما يعلّمك كيف تمجِّد الله وتقدِّسه وتحمده وتشكره وتتوب إليه، ومنها ما يعلِّمك كيف تناجيه وتخلو به بسرّك وتنقطع إليه، ومنها ما يبسط لك معنى الصلاة على نبيّه ورسله وصفوته من خلقه وكيفيتها ومنها ما يفهمك ما ينبغي أن تبر به والديك، ومنها ما يشرح لك حقوق الوالد على ولده أو حقوق الولد على والده أو حقوق الجيران أو حقوق الأرحام أو حقوق المسلمين عامّة أو حقوق الفقراء على الأغنياء وبالعكس، ومنها ينبهك على ما يجب إزاء الديون للنّاس عليك وما ينبغي ان تعلمه في الشؤون الاقتصادية والمالية، وما ينبغي أن تعامل به أقرانك وأصدقاءك وكافّة النّاس ومن تستعملهم في مصالحك، ومنها ما يجمع لك بين جميع مكارم الأخلاق ويصلح ان يكون منهاجاً كاملاً لعلم الأخلاق.

ومنها ما يعلِّمك كيف تصبر على المكاره والحوادث وكيف تلاقي حالات المرض والصِّحة، ومنها ما يشرح لك واجبات الجيوش الإسلامية وواجبات النّاس معهم…

وغير ذلك مما تقتضيه الأخلاق المحمّدية والشريعة الإلهية، وكل ذلك بأسلوب الدعاء وحده…»

وهنا ننتقل إلى تقديم الشهيد الصدر. قال أعلى الله مقامه:

الإمام زيد العابدين علي بن الحسين بن علي إبن أبي طالب من أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

وهو رابع من أئمة أهل البيت، وجدّه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من أسلم به، وكان منه بمنزلة هارون من موسى كما في صح في الحديث عنه، وجدّته فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليها وسلم وبضعته وفلذة كبده وسيدة نساء العالمين كما كان أبوها يصفها، وأبوه الإمام الحسين أحد سيدي شباب أهل الجنة سبط الرسول وريحانته ومن قال فيه جدّه «حسين مني وأنا من حسين» وهو الذي استشهد في كربلاء يوم عاشوراء دفاعاً عن الإسلام والمسلمين.

وهو أحد الأئمة الإثنى عشر الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، إذ قال: الخلفاء بعدي إثنا عشر من قريش.

وقد ولد الإمام علي بن الحسين في سنة ثمان وثلاثين للهجرة، وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين وعاش حوال سبعة وخمسين عاماً قضى بضع سنين منها في كنف جده الإمام علي (عليه السلام) ثم نشأ في مدرسة عمُه الحسن وأبيه الحسين سبطي الرسول وتغذى من نمير علوم النبوة واستقى من مصادر آبائه الطاهرين.

وبرز على الصعيد العلمي والديني إماماً في الدين ومناراً في العلم ومرجعاً في الحلال والحرام ومثلاً أعلى في الورع والعبادة والتقوى، وآمن المسلمون جميعاً بعلمه واستقامته وأفضليته وانقاذ الواعون منهم إلى زعامته وفقهه ومرجعيته.

قال الزهوي: «ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين ولا أفقه منه» وقال في كلام آخر: «ما رأيت قرشياً أفضل منه».

وقال سعيد بن المسيب: «ما رأيت قط مثل علي بن الحسين».

وقال الإمام مالك: «سمي زين العابدين لكثرة عبادته».

وقال سفيان بن عيينة: «ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه».

وعدّ الإمام الشافعي علي بن الحسين «أفقه أهل المدينة». وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى حكام عصره من خلفاء بني أمية على الرغم من كل شيء، فلقد قال له عبد الملك بن مروان: «ولقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلا من مضى من سلفك».

وقال عمر بن عبد العزيز: «سراج الدنيا وجمال الإسلام زين العابدين».

وقد كان للمسلمين عموماً تعلق عاطفي شديد بهذا الإمام وولاء روحي عميق له، وكانت قواعده الشعبية ممتدة في كل مكان من العالم الإسلامي كما يشير إلى ذلك موقف الحجيج الأعظم منه حينما حج هشام بن عبد الملك وطاف، وأراد أن يستلم فلم يقدر على استلام الحجر الأسود من الزحام فنصب له منبر فجلس عليه ينتظر ثم أقبل زين العبدين وأخذ يطوف فكان إذا بلغ موضع الحجر انفجرت الجماهير وتنحى الناس حتى يستلمه لعظيم معرفتها بقدره وحبها له على اختلاف بلدانهم وانتساباتهم، وقد سجل الفرزدق هذا الموقف في قصيدة رائعة مشهورة.

ولم تكن ثقة الأمة بالإمام زين العابدين على اختلاف اتجاهاتها ومذاهبها مقصورة على الجانب الفقهي والروحي فحسب، بل كانت تؤمن به مرجعاً وقائداً ومفزعاً في كل مشاكل الحياة وقضاياها بوصفه امتداداً لآبائه الطاهرين، ومن اجل ذلك نجد أن عبد الملك، حينما اصطدم بملك الروم وهدده الملك الروماني بإستغلال حاجة المسلمين إلى استيراد نقودهم من بلاد الرومان لإذلال المسلمين وفرض الشروط عليهم، وقف عبد الملك متحيراً وقد ضاقت به الأرض كما جاء في الرواية وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام، فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به، فقال له القوم: إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر! فقال: ويحكم من؟ قالوا: الباقي من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال صدقتم، وهكذا كان. فقد فزع إلى الإمام زين العابدين فأرسل (عليه السلام) ولده محمد بن علي الباقر إلى الشام وزوده بتعليماته الخاصة فوضع خطة جديدة للنقد الإسلامي وأنقذ الموقف.

وقد قدّر للإمام زين العابدين أن يتسلم مسؤولياته القيادية والروحية بعد استشهاد أبيه، فمارسها خلال النصف الثاني من القرن الأول في مرحلة من أدق المراحل التي مرت بها الأمة وقتئذ، وهي المرحلة التي أعقبت موجة الفتوح الأولى، فقد امتدت هذه الموجة بزخمها الروحي وحماسها العسكري والعقائدي، فزلزلت عروش الأكاسرة والقياصرة وضمت شعوباً مختلفة وبلاداً واسعة إلى الدعوة الجديدة، وأصبح المسلمون قادة الجزء الأعظم من العالم المتمدن وقتئذٍ خلال نصف قرن.

وعلى الرغم من أن هذه القيادة، جعلت من المسلمين قوة كبرى على الصعيد العالمي من الناحية السياسية والعسكرية، فإنها عرضتهم لخطرين كبيرين خارج النطاق السياسي والعسكري، وكان لا بد من البدء بعمل حاسم للوقوف في وجههما.

أحدهما: الخطر الذي نجم عن إنفتاح المسلمين على ثقافات متنوعة وأعراف تشريعية وأوضاع اجتماعية مختلفة بحكم تفاعلهم مع الشعوب التي دخلت في دين الله أفواجاً، وكان لا بد من عمل على الصعيد العلمي يؤكد في المسلمين أصالتهم الفكرية وشخصيتهم التشريعية المتميزة المستمدة من الكتاب والسنة، وكان لا بد من حركة فكرية اجتهادية تفتح آفاقهم الذهنية ضمن ذلك الإطار لكي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنة بروح المجتهد البصير والممارس الذكي الذي يستطيع أن يستنبط منها ما يفيده في كل ما يستجد له من حالات، كان لا بد إذاً من تأصيل للشخصية الإسلامية ومن زرع بذور الاجتهاد، وهذا ما قام به الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) فقد بدأ حلقة من البحث والدرس في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث الناس بصنوف المعرفة الإسلامية من تفسير وحديث وفقه ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين ويمرن النابهين منهم على التفقه والاستنباط، وقد تخرّج من هذه الحلقة عدد مهم من فقهاء المسلمين وكانت هذه الحلقة هي المنطلق لما نشأ بعد ذلك من مدارس الفقه والأساس لحركته الناشطة.

وقد استقطب الإمام عن هذا الطريق الجمهور الأعظم من القراء وحملة الكتاب والسنة حتى قال سعيد بن المسيب: «إن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب».

وأما الخطر الآخر: فقد نجم عن موجة الرخاء التي سادت المجتمع الإسلامي في أعقاب ذلك الامتداد الهائل، لأن موجات الرخاء تعرض أي مجتمع إلى خطر الانسياق مع لذات الدنيا والإسراف في زينة هذه الحياة المحدودة وانطفاء الشعور الملتهب بالقيم الخلقية والصلة الروحية بالله واليوم الآخر وبما تضعه هذه الصلة أمام الإنسان من أهداف كبيرة، وهذا ما وقع فعلاً وتكفي نظرة واحدة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني ليتضح الحال.

وقد أحس الإمام علي بن الحسين بهذا الخطر وبدأ بعلاجه واتخذ من الدعاء أساساً لهذا العلاج. وكانت الصحيفة السجادية التي بين يديك من نتائج ذلك. فقد استطاع هذا الإمام العظيم بما أوتي من بلاغة فريدة وقدرة فائقة على أساليب التعبير العربي وذهنية ربانية تتفتق عن أروع المعاني وأدقها في تصوير صلة الانسان بربه ووجده بخالقه وتعلقه بمبدئه ومعاده وتجسيد ما يعبر عنه ذلك من قيم خلقية وحقوق وواجبات. أقول قد استطاع الإمام علي بن الحسين بما أوتي من هذه المواهب أن ينشر من خلال الدعاء جواً روحياً في المجتمع الإسلامي يسهم في تثبيت الإنسان المسلم عندما تعصف به المغريات وشده إلى ربه حينما تجره الأرض إليها وتأكيد ما نشأ عليه من قيم روحية لكي يظل أميناً عليها في عصر الغنى والثروة كما كان أميناً عليها وهو يشد حجر المجاعة على بطنه.

وقد جاء في سيرة الإمام أنه كان يخطب الناس في كل جمعة ويعظهم ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في أعمال الآخرة ويقرع أسماعهم بتلك القطع الفنية من ألوان الدعاء والحمد والثناء التي تمثل العبودية المخلصة لله سبحانه وحده لا شريك له.

وهكذا نعرف أن الصحيفة السجادية تعبر عن عمل اجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الإمام إضافة إلى كونها تراثاً ربانياً فريداً يظل على مرّ الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب، وتظل الإنسانية بحاجة إلى هذا التراث المحمدي العلوي وتزداد حاجة كلما ازداد الشيطان إغراء والدنيا فتنة.

فسلام على إمامنا زين العابدين يوم ولد ويوم أدى رسالته ويوم مات ويوم يبعث حياً.

مسجد السيدة الزهراء عليها السلام