خالد الحلّي- ملبورن
ونحن ننتهي من قراءة كتاب «ضفاف الانتماء» للمبدعة كاميليا نعيم الصادر مؤخراً ضمن منشورات كلمات سيدني – أستراليا، نجد أن هذه المبدعة كانت قدظلمت نفسها وظلمت القراء بعدم نشرها ما كتبت من قبل، رغم تشجيع المقرّبين وبعض الكتاب، ونجد أن الدكتور رغيد النحاس، كان محقاً تماماً عندما اعتبر نفسه رابحاً في حصوله على موافقتها على نشر أعمالها، وأنها زادت منشوراته جوهرة مميّزة من جواهر الإبداع والنقاء.
ضمت هذه المجموعة الصادرة بــــــ 106صفحات من القطع الوسط 70 نصاً مالت جميعها إلى التركيز المكثف الدال، وقد جاء بعضها على شكل قصائد نثر، فيما جاء أغلبها على شكل خواطر وتأملات وسوانح، لا تترك القاريء يخرج منها إلا وهو متأثر بجماليتها و بأبعادها الإيحائية والتعبيرية، وما تبعثه من رؤى واستنتاجات. وقد زينت المجموعة بأربع لوحات فوتغرافية معبرة التقطتها عدسة الدكتور رغيد النحّاس، جاءت لتشكل إلى جانب صورة الغلاف تناغماً إبداعياً حميمياً ومؤثراً مع النصوص،
جاء إهداء الكتاب في شقين أولهما «إلى الطفولة الشاخصة نحو عدالة السماء، والسواعد التي ازدهر عليها عشق الوطن، وأحبّةٍ ما غادرت: تقيم في القلب وخلف جدار الأبدية. أما الشق الثاني من الإهداء فقد جاء بالشكل التالي: «إلىى أصالة أكفٍّ دمشقية المنبت، إنسانية الحضور، رسمت بحبرها الأبيض على مرايا الوجدان لون الفرح، أخرجت بصدق البوح وشفافيّة التلقّي مكنونات السنين الغابرة، حوّلتها لجدولٍ عذبٍ تنساب على صفحاته مياه أشجاني: شكراً للدكتور رغيد النحّاس».
تصدرت الكتاب مقدمة متأملة وشاملة للدكتور رغيد النحّاس، جسّدت الروحية الجمالية للكتاب، استهلها بالإشارة إلى أن كلمات المبدعة كاميليا هي كلمات ريّانة ناضجة، لكنّها مفعمة بملامح البراءة الأصليّة من زمن الصدق الخالص، مستشهداً بقولها: «هذه الطفلة بداخلي تسكن حنايا الروح، تعانق وجداني، لا تريد المغادرة.»
تكشف لنا نصوص الكتاب التي كتبت بعفوية وانسيابة، عن براءة وصفاء جليين، تنبض استخلاصات لهما بين سطور النصوص معبرة عن وعي فطري سليم، كما تفصح لنا عن محاولات متأنية للكشف عن تساؤلات غامضة تطرحها ألغاز الحياة والبشر، محاولة إيجاد أجوبة تحمل قدراً طيباً من الإقناع.
وهكذا نجد ومضات موحية، تحفز الذهن على الكشف والاستنتاج، هي أشبه بنوافذ مفتوحة يمكن أن نطل منها على مشاهد مؤثرة، مع اختلاف منطلقات كل ناظر إليها عن غيره، من جهة الزوايا وتباين الأحاسيس وطرائق التفكير. وإذ تتعدد النماذج والأمثلة نجدها تقول في خاتمة نص لها بعنوان «زنابق الفرح» : أعلم أنّ الصدق قليل، لكنه يأتي. بتواضع حضوره ينتصر، ويقضي ببراعة تفردّه على الكم الهائل من ندرة الوفاء.
وهي تقول في نفس النص: «تلك الدهشة ستبقى رفيقتي عند اللقاء بكل خيبة. وستبقى ثقتي بأنّ الآتي سيكون أنقى. لن تجلب التجارب المؤلمة سوى المزيد من الإصرار على ولادة الرحمة ونقاء السريرة.
يمضي العمر بحمولته القاسية. والانتظار بجواره يمضي، يترقب سُحب أمطار الخير تروي عطش أرض النكران والجحود».
إن نصوص الكتاب، التي قد تبدو ظاهرياً، أنها تستوحي همّاً فرديّاَ وتعبر عنه ، نجدها بنظرة متمعنة تنطلق من الخاص إلى العام، فالهم الفردي يمكن أن يكون هماً عاماً يرتبط بالآخرين أو أنه جاء بسببهم.
فإلى جانب النصوص الذاتية والوجدانية في الكتاب، نقرأ أيضاً نصوصا كرستها للتعبير عن هموم وطنية وقومية، بينها نص حمل عنوان «ثمانية عشر نجماً» كتبته في ذكرى استشهاد شقيقها يوم 27 نيسان 1996، نتيجة لعملية «عناقيد الغضب» التي فجرها الكيان الصهيوني في جنوب لبنان،
وإذا كانت معظم النصوص توحي بالحنين إلى الأرض الأولى وذكريات الطفولة والأمس البعيد، والاغتراب بمفهومه العام الواسع، فإن القاريء يمكن أن يجد نفسه فيها، مقيما كان أم مغتربا، فنجدها على سبيل المثال لا الحصر، تستهل نصها الذي حمل عنوان «عبور» بالقول: تعايرني بانتمائي إليه، أيّ عمرٍ أنت؟ وتختتمه قائلة: ما زلت هناك. لكنّي أقسم: لم أفار ق هناك …، ويذكرنا هذا على الفور بعنوان الكتاب «ضفاف الانتماء»،
وفي هذا السياق نلمس بوضوح، الخيوط الوشيجة التي تربط المؤلفة بالجذور وبالطفولة، وهكذا نجدها تقول في نفس النص: «كنت طفلة. هم من شدّواالرحال. هم من زرعوا بذور الغربة في صفاء الروح. ولم يحصد مرارة التغريب على بيادر الزمن سوى أنا.
كان الغصن طريّاً، لكنه كان عصيّاً. جذوري هناك. كانت وما زالت. تئنّ … تختال … تزهو … تفترش البقاء … تغفو … وتحلم بي.
تتوسّد الحنين وتنتظرني».
و قبل أن أختتم هذا الموضوع
، أجد أنّني لا بد لي من التأكيد على أنّ نصوص الكتاب تفصح عن الكثير والكثير، مما هو جميل ونبيل، فهنالك إضاءات أخلاقية وإنسانية وتعبيرية تستضيء بها السطور، المكتوبة بنقاء تلقائي، وصفاء ذاتي، و تألق وبراءة في التعبير والتكثيف والإيجاز، وهذا ما قد يشعر به غيري أيضا ممن ستتاح لهم فرصة قراءة الكتاب.