العميد وجيه رافع
لم تبدأ المفاوضات واللقاءات بين حزب الله والدبلوماسية الفرنسية بعد انفجار النظام السياسي اللبناني في مرفأ بيروت، فالمعطيات تشير الى ان خطوط التواصل والتلاقي بين الفريقين كانت قائمة منذ فترة غير قليلة من الزمن،
فالحزب المأزوم جداً منذ مباشرة الضغوط الاميركية القاسية عليه، وجد في الدبلوماسية الفرنسية نافذة للاطلالة على القوى المؤثرة في لبنان لشرح هواجسه وتحليل قراءته ورؤيته للعملية السياسية فيه،وذلك انطلاقاً من تمتّعه بمرونة كبيرة في تنظيم اوراقه الداخلية وقدرته على فصلها عن اختها الاقليمية في اللحظات الحرجة،ومن المؤكد ان الحزب قدّم مقاربته السياسية،انطلاقاً من محاكاة فلسفية تبّنتها فلسفات اوروبية منذ عصر التنوير، اساسها ان سيادة الدول غير مطلقة بل انها مقيدة تقييداً اجبارياً بالقانون الطبيعي،الذي هو نفسه في كل زمان ومكان،وهو ليس من صنع البشر بل من صنع الخالق،المُنشئ الاول لهذا القانون،ليصل الى طرح الاشكالية التالية على الفرنسيين:هل يمكن بمقتضى واقع العقد الاجتماعي اللبناني التنازل عن الحقوق الطبيعية للافراد والجماعات في الدفاع عن النفس والحق في الحياة،واستطراداً ألا يقع مجتمع لبنان السياسي على فالق متصّدع بين العقد الاجتماعي القائم فيه واحكام القانون الطبيعي
تلاقت مصالح الطرفين في البحث والتعمق، ووجدت فرنسا فرصتها الذهبية بالدخول على خطوط اللعبة الاستراتيجية في الاقليم من البوابة اللبنانية،وتبادلت الافكار والهواجس مع الاميركيين الذين عبّروا عن اقتناعهم بضرورة التغيير في لبنان واعادة ترسيم المداخل السياسية للنظام في لبنان،وقد بانت أُولى هذه المؤشرات في قرار الادارة الاميركية عند اعلانها عن وقف المساعدات العسكرية للجيش اللبناني في بداية شهر نوفمبر من العام 2019 ومن ثم التراجع عنها بعد شهرين ،توقف وتراجع رافقه الكثير من الغموض والالتباس في ذاك الوقت،
لكن المشكلة الرئيسية تبقى في شكل هذا التغيير المنشود ،اذ ان كل فريق يعمل لكي يكون هذا التغيير متوافقاً مع مصالحه الاستراتيجية في لبنان والمنطقة
تشير المعطيات الى ان الهندسة الاميركية-الفرنسية للملف اللبناني قامت اولاً على التوافق على انقاذ البلاد من الانهيار ،وتكليف الفرنسيين بالعمل على اصلاح المخارج المهترئة للنظام السياسي، دون التعمق في اصلاح مداخله السياسية،انما البقاء في العناوين فقط لارتباط هذه المداخل في البنية الكاملة لدور لبنان في المنطقة ومصالح الاميركيين فيها
وعلى هذا الاساس قسّم الاميركيون ملفاتهم اللبنانية في حقيبتين:
1-حقيبة اصلاح الملفات الاقتصادية والمالية والنقدية ومعالجة ملفات البنى التحتية لتفادي انهيار الدولة والكيان
2-الحقيبة الجيوبوليتكية، وفيها موافقة اميركية مشروطة حول ضرورة البحث عن عقد سياسي جديد بين اللبنانيين ومقاربة برامج الاصلاحات السياسية، ومدخلات المنتظم السياسي اللبناني، انما على وقع الترسيم النهائي لدور النظام السياسي في الاقليم
تبدو الحقيبتان منفصلتان في الشكل انما مترابطتان في الجوهر ،فصلهما بومبيو في لحظة فراغ اميركية مقصودة بمناسبة الانتخابات الرئاسية،وزج بالفرنسيين لغايات لبنانية وكذلك لاهداف استراتيجية اخرى غير لبنانية،تصل ارتداداتها الى كامل الحوض الشرقي للمتوسط حيث يتم التحضير هناك لكباش استراتيجي من نوع مختلف،بدأت تباشيره الاولى ترتسم من مثلث تمتد نقاطه الثلاث بين بحر اليونان وشواطئ بيروت وقبرص وصولاً الى الهلال النفطي الليبي كان انفجار الرابع من آب نقطة تحول كبيرة للانطلاق بالهندسة الجديدة للملف اللبناني،شبَك الرئيس الفرنسي خطته مع الايرانيين الذين ابدوا تعاوناً كبيراً تسهيلاً للحليف اللبناني،ووصل الرجل الى لبنان دون كامل محتوى الحقيبة الجيوبوليتيكية،اذ انه مرّ من امامها مرور الكرام رامياً عناوينها بغموض مدروس، وغامزاً بايجابية كبيرة لناحية مشروعية التمثيل السياسي الشعبي لحزب الله، وضرورة ايجاد عقد جديد بين اللبنانيين دون اي شرح او تفصيل يُذكر في هذا المضمار،لكن الملفت للنظر هنا، الغياب التام والمقصود لمسار اتفاق الطائف، فالهدف الاميركي الرئيسي هو البقاء ضمن نظام الخصوصية اللبنانية وعدم ذوبان اللبنانيين في هوية وطنية واحدة، وذلك بتوافق معلن من قبل حزب الله ترجمه السيد حسن منذ فترة قصيرة عندما قال:»ليس المطلوب تغيير النظام بل البحث فقط في آليات تطويره»
وعلى المقلب الآخر، وفي نفس الوقت، كان يجري بكل هدوء وانتظام وباشراف مباشر من الاستخبارات الفرنسية،تحضير رئيس حكومة التغيير في مطابخ اوروبا السياسية،في سابقة قل نظيرها في العلاقات الحديثة بين الدول،وسابقة اخرى لم يشهدها لبنان منذ بداية المئوية الاولى:فرنسا المسيحية حليفة رئيس حكومة لبنان المسلم،وليس رئيس جمهوريته المسيحي،الرئيس التي فُصّلت كرسيّه في مطابخها التاريخية
لكن يبقى السؤال الاساسي هو:هل سينجح ماكرون في مهمته هذه، القلق وفقدان الثقة ترافقان مهمته المعقّدة،بدت تجلياتها واضحة الصورة والمعالم منذ زيارات المسؤولين الاميركيين على حافة مهمته واطلاقهم مواقف تصعيدية،وكذلك زيارة وزير الخارجية الايراني غير المنسقة معه، مما دفع به الى خلط الحقائب قصداً،معلناً عن ضرورة التطرق الى مسألة السلاح في الشهور القادمة،الامر الذي اقلق الحزب،فعمد الى سحب ممثله من الغداء الرئاسي فوراً،وفاضحاً بتسريب مقصود نية واشنطن المضمرة بتوسيع دائرة النفوذ الشيعي داخل النظام السياسي،تعقيد وتصعيد خلط اوراق الحقائب،وأدى الى اعادة الكباش السياسي المعهود، وتغييب المرونة التي ابداها الجميع لتسهيل عملية تشكيل حكومة ماكرون الاولى في لبنان.