العميد وجيه رافع
من كان يصدق ان دولة صغيرة كلبنان يمكنها ان تُعقِّد ملف الشرق الاوسط الاميركي الجديد،وتضع كافة اللاعبين في الاقليم امام خيارات شديدة التعقيد، فبرغم القناعة الثابتة بأن المسرح الجيوبوليتيكي الشرق اوسطي هو مسرح مؤدلج في بناءات النظام الاميركي العميق حيث لا تتغير بشكل كبير بين ادارة اميركية،جمهورية كانت او ديمقراطية، الا ان الثابت لتاريخه هو الضياع والتخبط الواضح في مقاربة الولايات المتحدة لسياساتها الاستراتيجية،وفي لبنان تحديداً
احترقت اكبر دولتين في المشرق العربي واستطاع لبنان تجنب الحرائق الطائفية والمذهبية فيه،لغياب المصالح الاقليمية والدولية في ذلك ،لان لبنان باختلاف كل من سوريا والعراق،هو اصلاً مسرح جيو-طوائفي، أُريد تعميم النموذج السياسي الطائفي فيه على دول المنطقة، فالولايات المتحدة تسعى الى بناء دول ذات اساسات ديمقراطية هشة كلبنان، وبمضامين فدرالية معقدة تقترب او تبتعد قليلاً عن المضمون اللبناني القائم ،بحيث تسمح لها هذه الآلية من تحقيق اهداف ثلاثية الابعاد وهي:
1-اعاقة وتعطيل اية امكانية لهذه الدول من اعادة انتاج هوياتها او صياغة تحديات مستقبلية لمجتمعاتها الامر الذي يضر بمصالح اميركا وحلفاءها في المنطقة تماماً كما حدث مع النهوض القومي لكل من المانيا وتركيا بعد الحرب بالرغم من خسارتهما هذه الحرب
2-تسمح لها بعدم التورط المباشر في الصراعات والنزاعات التي ستحصل بين الولايات الجديدة المصطنعة بحيث تتمكن من السيطرة عليها عن بُعد بواسطة وكلاءها
3-امكانية التدخل بسياسات هذه الدول لضعف البناء القومي الاستراتيجي لوحداتها السياسية
يبقى ان نشير الى ان الولايات المتحدة تسعى لترسيخ الهشاشة في الهياكل السياسية للكيانات الجديدة لدرجة ابقاءها ضعيفة وقلقة، ولكن ليس لدرجة تفتتها وتآكلها وانهيارها كما يحدث حالياً في لبنان،ومن اجل ذلك سمحت في دعم وتطوير مؤسسات الامن والقضاء والجيوش في هذه الكيانات بقدرات تسليحية ضعيفة طبعاً،لتتمكن هذه المؤسسات من حماية التوظيفات والرساميل الكبرى التي ستوظف مستقبلاً فيها خدمة لمصالحها ومصالح حلفاءها
ان النموذج اللبناني الذي كان يُخطط لتعميمه على دول المنطقة أُصيب باعطاب واعطال كبيرة بغض النظر عن وجود حزب الله فيه،وهذه القناعة اصبحت في صميم العقل الاميركي، بالرغم من نكران ذلك علناً،فقد استفاقت الولايات المتحدة متأخرة على حقيقة تآكل وهريان كافة المؤسسات في لبنان ووجدت نفسها واقعة بين حزب عقائدي مسلح تمكن من ان يصبح لاعباً اقليمياً كبيراً يشكل خطراً على مصالحها، وبين نخبة سياسية «سيادية» فاسدة تائهة زواجت بين السياسة والسيادة والمصالح الشخصية وحولت نموذجاً بكامله الى جدلية عبثية اصابت كافة المؤسسات مقتلاً ،وحولت مجالس ادارتها من مجالس شكلية الحضور الوطني انما شخصانية الدور والممارسة،عممت الفساد ونهبت البلاد وخرّبت امكانية وقدرة هذا النموذج من تعميمه على دول المنطقة، وهكذا استطاع النصابون الكبار ،عن قصد او عن جهل،من خذل الولايات المتحدة ونموذجها اللبناني المطلوب، في الوقت التي اضاعت وقتاً طويلاً في تبني بناءاته وصرفت اموالاً وجهوداً كبيرة في سبيله
وصل لبنان اليوم،الى حدود الانهيار الكامل وقامت الثورة البريئة والصادقة،لكن سرعان ما عانت هذه الثورة من تمزقات وتوظيفات كبيرة في اجنداتها نظراً لغياب برامجها الواضحة القادرة على مواءمة الواقع اللبناني وتعقيداته الاقليمية،من دون ان نُسقط ايضاً ،ان مئة سنة من عمر الانشقاقات العميقة في الهوية الوطنية اللبنانية كافية جداً لابتداع القلاقل وادخال الثورة في الضياع والتأثير على برامجها ووحدة تطلعاتها
يجري حالياً تدعيم الجسر المتصدّع والمتهالك للبناء الوطني اللبناني بقبول ارادي دولي،فأبدت الولايات المتحدة مرونة مفاجئة ظهرت في اكثر من ملف ليس آخرها قبولها التعاطي مع حكومة تضم حزب الله داخلها، بالاضافة الى موافقتها على تسهيل مهمة الرئيس الفرنسي بتواصله مع طهران لتهدئة الوضع ومنع الانهيار ،دون التوافق على وضوح المخارج المحتملة، اذ ان انهيار لبنان سيعيد خلط الاوراق بقوة على المسرح الجيوبولتيكي برمته، وهذا ما يضر بمصالح الجميع ويُدخل لبنان والمنطقة في دوامة ظلامية شديدة الخطورة بدأت ملامحها الاولية وسيناريوهاتها بالظهور والتبلور في لبنان تباعاً
يبقى ان نشير الى ان الضياع يشمل كافة اللاعبين دون استثناء،محليين واقليميين ودوليين ،فالانهيارات المتتابعة التي حدثت في الجسم اللبناني، وآخرها التهالك المصرفي القريب جداً من الانهيار ،ناهيك عن الانهيار الاقتصادي الكامل،وكذلك انهيار مؤسسات الدولة بسبب الفساد المترامي لدى كافة الاطراف،الامر الذي سيؤدي الى تصدعات وارتدادات كبيرة وخطيرة ستضع البلاد والمنطقة برمتها في فوضى عارمة ستطال تشظياتها الجميع. واخيراً لا بد من التأكيد الى ان مخرج الطائف وسياقاته الدستورية ليست بوارد التسهيل بتاتاً من قبل الاميركيين وحلفاءهم ،فلبنان الدائرة الواحدة خارج القيد الطائفي لا وجود لها اطلاقاً في افكارهم واجنداتهم،لانها تشكل خطراً على مصالحهم في المنطقة، اذ انه قد يتم تعميم هذا الموضوع على كيانات اخرى كسوريا والعراق لاحقاً، الامر الذي ستذهب معه عشرات السنين من التضحيات والاستثمارات في ترسيخ الهويات الطائفية وضرب الهويات الوطنية،دون ان ننسى ان الراحل الكبير كمال جنبلاط سقط شهيداً لهذه الدائرة، ودفع حياته ثمناً لها من قبل المصالح المتشابكة الخفية والظاهرة في تلك الحقبة من الزمن. السيناريوهات القادمة والمؤجلة الى ربيع العام 2021 ستكون معقدة لكنها ليست مستحيلة،فالعقل الاميركي يتمتع بمرونة كبيرة،خاصة في ظل شخصية عسكرية خطيرة لكنها براغماتية، عنيت بها قائد الجيوش الاميركية حالياً، الجنرال مارك ميللي،وما زيارته الاخيرة الى تل ابيب الا لقراءة وتحليل المتغيرات واستنباط السيناريوهات المحتملة والذي سيكون لنا رأي فيها في الايام القادمة،ليطرح السؤال التالي نفسه بقوة: هل سيتمكن لبنان من تجنب الانهيارات الاقتصادية هذه الفترة من الزمن،ام سيسقط الهيكل على رأس الجميع.