[slideshow_deploy id=’35636′]
المطران طربيه: القتلى ليسوا أرقاماً بلا وجوه أو أسماء
“هؤلاء هم نحن”!
من السهولة بمكان أن نشير إلى ضحايا الحروب والانفجارات والمآسي بالأرقام، لكن القلب يدمي عندما ينظر إلى أبعد من تقارير الإعلام والروايات الرسمية وغير الرسمية، ويبدأ برسم ملامح الوجوه والتعرف على الأسماء وسائر تفاصيل الحياة الإنسانية.
من ضحايا الانفجار المروّع الذي نُكبت به بيروت يوم الثلاثاء في 4 آب والذي وصلت حصيلة ضحاياه إلى 154 قتيلاً، فيما أصيب أكثر من 5000 آخرين بجروح، جنود مجهولون خدموا الوطن والإنسانية بصمت. بين هؤلاء، ممرضون، عناصر إطفاء، آباء، أمهات، وشبيبة كانت تضج بالحياة والمهارات والمواهب. ذهبوا تاركين وراءهم عائلات تبكي ووطناً ينزف.
سيادة المطران أنطوان شربل طربيه، راعي الأبرشية المارونية في أستراليا، أضاء على هذه المأساة المروّعة، في قداس احتفالي رَأَسَه في كاتدرائية سيدة لبنان من أجل ضحايا الكارثة مساء السبت في 8 آب، يعاونه لفيف من الكهنة، بحضور أفراد من عائلات الضحايا، وسياسيين، ودبلوماسيين، وممثلين عن طوائف مسيحية وإسلامية ومندوبي الإعلام. وقد شكر المطران طربيه الحضور، معتذراً عن عدم التمكن من استقبال أكثر من 100 شخص بسبب القيود الحالية المفروضة على التجمعات لمنع انتشار وباء كورونا.
وقد أكد المطران طربيه أن ضحايا الانفجار ليسوا أرقاماً، بل هم أهل وأحباء، وهناك من كان في أمسّ الشوق إليهم، خصوصاً في أستراليا. ليسوا أناساً “بلا وجوه وأسماء، أو أشخاصاً بلا هوية، بل أخوة وأخوات لنا في المسيح، لكل منهم تطلعات، أحلام، عائلة وأحباء”.
وسمّى المطران طربيه في عظته عدداً من ضحايا الانفجار، كاشفاً عن وجوه طيّبة رحل أصحابها بلا وداع، ومفنداً تفاصيل مؤثرة عن حياتهم.
من هؤلاء الضحايا، جاكلين جبرين، شقيقة المغترب جورج جبرين الذي يعيش في أستراليا. كانت جاكلين تعمل ممرضة في مستشفى الوردية في الأشرفية، وتقدم أيضاً الرعاية لوالدتها. هي ابنة مهنة يقوم أفرادها بمهمات بطولية، كما أشار المطران طربيه، “وقد تعلمنا كيف نقدّرهم أكثر من أي وقت مضى خلال أزمة وباء COVID-19”. وأضاف المطران طربيه “هذه المأساة تركت أماً بلا ابنة، وشقيقاً يبكي فقدانها وهو بعيد عنها آلاف الكيلومترات، ومستشفى بلا ممرضة”.
من الضحايا أيضاً جوزف لطيف مرعي من جاج، قضاء جبيل، وقد شارك شقيقه ريموند لطيف مرعي في القداس. قضى جوزف عن 50 سنة، تاركاً وراءه زوجة وأربع بنات، جميعهن دون الـ 15 من العمر. “هكذا ستترعرع الفتيات في غياب أب حنون يكون إلى جانبهن في كل مناسبة مهمة من حياتهن”، كما قال سيادته. سيفتقدنه كل يوم، وفي يومهن الكبير حين يسرن تلك المسافة من الباب إلى المذبح لتبدأ كل منهن عائلة جديدة سيرافقهن من السماء. وفاته ليست خسارة لعائلته فقط بل لوطنه أيضاً، فقد كان جوزف يعمل إطفائياً مع مفرزة مرفأ بيروت، وكان من أوائل الذين هبّوا لإخماد الحريق عندما شب هناك قبل أن يقع الانفجار. إنه واحد من الجنود المجهولين الذين يكتبون بطولاتهم بصمت كل يوم. “مساء الثلاثاء، لم يعد جوزف إلى منزله، لم يعد إلى زوجته وبناتهما الأربع، ولن يعود إلى عمله”.
من ضحايا انفجار بيروت المروع أيضاً نيكول ماجد الحلو، من بلدة صربا في جنوب لبنان. وقد شارك نسيبها جورج أبو صالح في القداس. قضت نيكول عن 25 ربيعاً، لتأتي المأساة على حياة شابة مليئة بالتطلعات والآمال. كانت نيكول داخل سيارتها في الجمّيزة عندما داهمها الموت، تاركة عائلة تبكي صباها.
من الضحايا أيضاً، ميشلين خليل طوق من بشري، نسيبة سعاد أرملة سليم حنا يوسف طوق. وميشلين كانت في الرابعة والأربعين من العمر وتعمل مستشارة للاتصالات لدى شركة كهرباء لبنان. وهي تمثل جيل المواهب والمؤهلات في لبنان، وجيل النساء المثقفات اللواتي يعملن بعيداً عن الأضواء لتفعيل البنى التحتية والاتصالات.
من قضاء جبيل سقط أيضاً جوزف روكز، من بلدة قرطبا. وقد شارك نسيبه بيار سخن في القداس. وجوزف والد كان يعمل لدى شركة شحن في مرفأ بيروت لتأمين لقمة العيش لعائلته في الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها لبنان.
وذكر المطران طربيه في عظته أيضاً الأشخاص الذين لا يزالون مفقودين، طالباً من الله أن يتم العثور عليهم سالمين، وبينهم ثلاثة من عناصر الإطفاء وهم شربل كرم، شربل حتي ونجيب حتي.
وقد توقف المطران طربيه عند كل واحد من هؤلاء الضحايا، منوهاً بما قدموه بصمت لعائلاتهم ووطنهم، رافعاً صلاته إلى الله عن جميع الذي سقطوا في الانفجار، مسيحيين ومسلمين، كباراً وصغاراً، مؤكداً أنهم جميعاً عائلاتنا، أصدقاؤنا، زملاؤنا وجيراننا، فـ “هؤلاء الأشخاص هم نحن”.
وتساءل المطران طربيه، كم يجب أن يحتمل اللبنانيون قبل أن يعرفوا الاستقرار والسلام؟ ومن يعوّض عمّن ذهبوا؟ ومن يطفئ النار في قلوب الأمهات ويكفكف الدموع من عيون الآباء؟
وأضاف، “كمغتربين لبنانيين، كنا نأمل بأن يكون الاستيقاظ باكراً على أخبار الحرب قد بات من الماضي. كنا نأمل بأن يكون وطننا قد بدأ بالتنعم بالسلام والاستقرار بعد سنوات من الحرب وعدم الاستقرار خلّفت آلاف الشهداء ودفعت بمئات الآلاف من اللبنانيين إلى الهجرة. لكن مع الأسف، لا نزال نصحو، يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، على أنباء مأسوية، بسبب الاضطراب السياسي، وانعدام المحاسبة وغياب الحوكمة الصحيحة. بالنسبة لنا نحن الذين نعيش خارج لبنان، هناك شعور بالعجز والقلق والحسرة والرثاء على وطن نحبه وشعب هو عائلتنا وخاصتنا.”
وحثّ المطران طربيه في عظته الجالية على مد يد المساعدة إلى لبنان، مذكّراً بمثال قديسة أستراليا ماري ماكيلوب الصليب التي تزامن عيدها مع يوم إقامة هذا القداس، والتي لم تقف مكتوفة اليدين أمام آلام الناس وفقرهم وحاجاتهم. وأشار إلى الحملة التي أطلقتها الأبرشية المارونية لمساعدة منكوبي كارثة الانفجار، شاكراً كل التجاوب الذي لقيته الحملة من الجالية حتى الآن. وشدد على أهمية الوحدة الوطنية، وضرورة التكاتف والتضامن بين كل مكونات الشعب اللبناني، من مسلمين ومسيحيين لمواجهة هذه المرحلة الصعبة.
وختم المطران طربيه عظته بصلاة من أجل جميع الضحايا، مسيحيين ومسلمين، طالباً من الله أن يمنح عائلاتهم الصبر والسلوان والقوة والشجاعة والرجاء، وأن يشفي الجرحى، ويعيد المفقودين، ويمنح لبنان السلام.
إنه السلام الذي رحل الموكب الجديد من الشهداء قبل أن يتحقق. رحلوا إلى ملكوت السلام! فهل هي صدفة أن تضج ذكراهم في حنايا كاتدرائية سيدة لبنان في عيد التجلي، وهو الحدث الذي كشف فيه الرب لتلاميذه ومضة من النعيم الأبدي؟ وهل هي صدفة أن يقام هذا القداس قبل أيام من الاحتفال بعيد انتقال العذراء بالنفس والجسد إلى السماء؟ هذه المرة لن تذهب وحيدة إلى السماء في عيدها، بل سيكون معها موكب كبير من الشهداء.