تمتد الحياة العملية لرجل الأعمال البريطاني السير جاك بيتشي إلى أكثر من سبعين عاماً، انتقل خلالها من صاحب سيارة أجرة واحدة إلى قيادة شركة عقارات تبلغ قيمتها الآن 550 مليون جنيه إسترليني.
ويشير السير جاك إلى أن اعتقاله في البرتغال كان أصعب لحظة في حياته، قائلا: “تخيلت والمدفع الرشاش موجه نحوي أنني سوف أسجن أو سيحدث لي ما هو أسوأ من ذلك”.
حدث ذلك عام 1974 عندما كان السير جاك بيتشي في خضم تشييد مجمع سياحي في منطقة الغارف الجنوبية بالبرتغال، حين وقع هناك انقلاب عسكري. وكانت السلطات تنظر بعين الشك والريبة للمستثمرين الأجانب، كما يقول، وكان ذلك جلياً عندما وجد نفسه في إحدى المحاكم الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، يواجه تهماً بانتهاك قوانين العملات الأجنبية.
يقول السير جاك عن ذلك: “لحسن الحظ تمالكت أعصابي، وأطلق سراحي بكفالة وأسقطت التهم الموجهة لي بعد سنتين”.
في تلك المرحلة، كان بيتشي في طريقه إلى جمع ثروته، على الرغم من أنه بدأ حياته في ظروف متواضعة.
ولد السير جاك عام 1925، وعاش سنواته الأولى في شقة مكونة من غرفة واحدة بمرحاض خارجي في منطقة مانور بارك شرقي لندن. وكانت “علبة استحمام العائلة” معلقة على سياج في الخارج ويجري إدخالها مساء كل يوم جمعة للاستحمام.
ولا يزال السير جاك يتذكر اللحظات السعيدة في أيام طفولته، قائلا: “كنا نلعب خارج البيت في الشارع، وكنا نطرق أبواب الجيران ونهرب، أو نلصق قطعاً من النقود على الرصيف ونراقب المارة وهم يحاولون التقاطها. لم نكن نفكر في أننا فقراء، لكنني كنت أعرف أننا لسنا أثرياء”.
وعلى الرغم من أن السير جاك يدافع حاليا عن التعليم، فإنه لم يكن يهتم بالمدرسة وغادرها وهو في الثالثة عشرة من عمره، وعمل بعد ذلك مباشرة كصبي في أحد المكاتب. وفور اندلاع الحرب العالمية الثانية، تطوع السير جاك في البحرية الملكية وهو في السابعة عشرة من عمره.
رُشح السير جاك للتدريب كضابط بحرية، لكنه لم ينجح في تجاوز الاختبارات، وشعر بانزعاج شديد لأن شخصا كان يفتقر للمهارات القيادية قد نجح في تلك الاختبارات، بينما فشل هو.
وجعلت هذه التجربة السير جاك أكثر تصميما على تحقيق النجاح، ويؤكد على أن “العزيمة” كانت دائما سببا قويا وراء النجاحات التي حققها. نقل السير جاك إلى سلاح الأسطول الجوي وانتهى به المطاف بالعمل كمهندس طائرات، لتقديم الخدمات اللازمة للطائرات التي وفرت غطاءًا جويًا أثناء إنزال نورماندي في يونيو/حزيران 1944.
وبمجرد تسريحه من الخدمة العسكرية، عاد لعمله المكتبي الذي كان يمارسه قبل اندلاع الحرب، لكنه وجد نفسه يشعر بملل شديد بعد “الإثارة التي عاشها في الخدمة العسكرية”.
وتعرض السير جاك لانتكاسة أخرى حفزته للمضي قدماً، ويقول عن ذلك: “كنت طموحاً، ولهذا طلبت أن أتدرب للعمل كمدير، لكن مسؤول الموظفين أخبرني بأنني لا أصلح للإدارة”.
غضب السير جاك بشدة، وهو ما دفعه لتقديم استقالته، رغم أنه كان يعرف أنه يتعين عليه أن يدفع الكثير من التكاليف، مثل أجرة المسكن ونقود الخدمة والتنظيف المنزلي التي يدين بها لأمه. ولهذا وضع مكافأة نهاية الخدمة، التي كانت تبلغ 48 جنيهاً إسترلينياً، مع ما كان يدخره طوال حياته ليشتري سيارة مستعملة ويبدأ العمل عليها كسائق أجرة ينقل الجنود العائدين من لندن.
وبعد ذلك، اشترى سيارة أخرى، ثم أنشأ شركةً لتأجير السيارات عام 1948.
يقول السير جاك عن هذه التجربة: “لقد أدركت أن بيع السيارات مربح جدا، لهذا اشتريت معرض سيارات. ولم يمض وقت طويل قبل أن أدرك أن بيع معرض السيارات كان في الحقيقة مربحاً أكثر”.
وكانت هذه هي بداية العمل في مجال العقارات، وكان السير جاك لديه رغبة هائلة في اقتناص الفرص، حتى لو كان ذلك ينطوي على مخاطرة. وبعد أن كان على وشك الإفلاس عام 1974، عندما انهارت أسعار العقارات، أصبح من رواد حركة ما يعرف باسم “الاشتراك في الوقت” (تايم شير) في أوروبا، والتي يشتري فيها الناس أسهماً في العقارات السياحية لاستخدامها بالتناوب في أوقات محددة فقط من السنة.
وقد طبق هذه الفكرة على مجمعه السياحي في منطقة الغارف الجنوبية بالبرتغال خلال الثمانينيات، وفي مشروعات أخرى في المملكة المتحدة أيضاً.
لكن لم تكن جميع مشروعاته ومغامراته تكلل بالنجاح بدون أن تواجه عقبات، فقد اشترى نادي واتفورد لكرة القدم من إلتون جون عام 1990، لكنه باعه ثانية له عام 1996 وسط الكثير من الانتقادات لكيفية إدارة النادي.
وتدير شركة “بيتشي هولدينغز” الآن حقيبة كبيرة من العقارات الصناعية والسكنية ويُعاد استثمار قسم من أرباحها يبلغ 9 مليون جنيه إسترليني سنوياً فيما يعتبره السير جاك أعظم إنجازاته، وهو مؤسسة “جاك بيتشي”، التي تهدف في الأساس لمنح الشباب فرصة للعمل بشكل جيد، وشعارها الذي وضعه السير جاك هو: “إذا كنت تعتقد بأنك تستطيع، فإنك فعلا تستطيع”.
وتخصص المؤسسة جوائز باسمها لمن يحققون إنجازات معينة، كما تدير برامج تطوعية وتقدم منحاً للمدارس، وتمول حركات الكشافة، التي أثرت بشكل كبير أيضا في حياة السير جاك وهو في فترة الشباب.
ويعد آيدن كيمب، البالغ من العمر 15 عاماً ويعاني من شلل دماغي خفيف، واحدا من 200 ألف شاب ساعدتهم المؤسسة. لقد تغلب كيمب على مشاكله الصحية وشارك في مسابقة “سبيك آوت” التي ينظمها جاك بيتشي، والتي كان عليه بموجبها أن يلقي خطاباً أمام جمهور من الطلاب والمعلمين وأولياء الأمور.
يقول كيمب عن ذلك: “قلت لنفسي، سوف أفعلها، ولن أتراجع. وبعد ذلك شعرت حقاً بالثقة في أنني أستطيع أن أفعل أي شيء، وكنت أريد فقط أن أثبت أن أي إنسان بغض النظر عن خلفيته أو إعاقته، يمكن أن يحقق أي شيء”.
وقد بلغ مجموع المنح التي وزعتها المؤسسة خلال 21 عاماً 133 مليون جنيه إسترليني.
والآن، يبلغ السير جاك من العمر 95 عاماً، وحتى لو لم يعد قادرا على المشي على قدميه، فإنه لم يفقد شهيته للعمل. ولم يمنعه من التردد يومياً على مكتب المؤسسة في ناطحة سحاب “كناري وارف”، إلا تفشي فيروس كورونا.
وكشف حفيده، مات رانتيل، أحد أمناء المؤسسة، أن جده يحمل دائماً في جيبه بطاقة مكتوب على أحد وجهيها عبارة “فكر في ابتسامة”، وعلى الوجه الآخر عبارة “لا تنتقد، لا تستنكر، أو تشكو”.
يقول السير جاك: “يقول كثيرون إنني محظوظ في التجارة. حسناً، لكنني أتحلى بالشجاعة والإقدام أيضا! فاتخاذ القرارات وانتهاز الفرص وتحقيق النجاح يتطلب الشجاعة”.
وعندما سُئل هذا الشخص المتفائل عما إذا كان هناك في حياته التجارية أشياء كان يرغب في أن يفعلها بشكل مختلف، رد قائلا: “ليس من الجيد النظر إلى الماضي، عليك دائماً أن تنظر إلى الأمام. بإمكاني القول بصدق إنه لا يوجد ما أندم عليه”.