
بقلم / هاني الترك OAM
الفصل الخامس : تأثير العرب على استراليا
ان الانسان هو الكائن الوحيد الذي لديه تاريخ لان له ذاكرة ووعي وحضارة وصاحب التاريخ والمعرفة أساس الوعي.
والمعرفة بحاضر الجالية هو أساسي لاستخراج العبر والدروس وتصحيح المسار.
وهذه الدراسة اعددتها عام 1988 في الاحتفال المئوي الثاني لإستيطان استراليا وفزت بها بالجائزة الاولى في مسابقة صحيفة «النهار» في ذلك الزمن.
ولم أغيّر فيها الحقائق والاحداث لان التاريخ يظل التاريخ… لهذا تنشرها «التلغراف» على حلقات متتالية أسبوعياً مع تحديث الدرس في الدراسة في آخر فصل من اجل استخراج العبر والهدف من الدراسة.
ان عدم فهم المدرسين للثقافة العربية، وجهل الآباء العرب بنظام التعليم الاسترالي، حيث ان مناهج التعليم لا تتناسب والخلفية الثقافية الدينية للطلبة العرب، وحتى ان الطلبة غير العرب لا يعرفون شيئاً عن الثقافة العربية والعادات والتقاليد الاجتماعية والدينية، كل هذه العوامل وغيرها تؤدي الى فشل بعض الطلاب العرب وعدم التفوّق. فمثلاً في عملية مسح (قام بها كاتب هذا البحث) للكتب الموجودة في المدارس الحكومية الاسترالية، والتي تم حصرها في الكمبيوتر، فقد وجد ان في كل مدارس استراليا ستة كتب فقط بالانكليزية تتناول الحضارة العربية، عشرة كتب فقط عن الحضارة الاسلامية، في حين يوجد مئات الكتب (حسب الكمبيوتر) عن الحضارتين اليونانية والرومانية. فاذا كانت المكتبات المدرسية تفتقر الى الموارد الأساسية التعليمية للحضارة العربية الاسلامية فكيف يمكن للمدرسين والطلاب غير العرب ان يطلعوا على الثقافة العربية ليتفهموا عراقتها وتأثيرها على تاريخ العالم، وتكوينها للشخصية العربية وخلق نوع من التفهّم والتقدير والاحترام وازالة العنصرية من جهة الطلبة. وبالمثل فان افتقار هذه المكتبات للكتب عن الحضارة العربية والاسلامية لا يمكن الطالب العربي من الاطلاع على ثقافة العرب وتاريخهم. فإذن ان تطبيق مفهوم الحضارات المتعددة هو ابعد ما يكون عن قطاع التعليم، والنتيجة هو ان يخلق لدى الشاب العربي نوع من الشعور بالنفور للمدرسة والعلم تجاه المجتمع، ويفشل الطالب في الحصول على نتائج عالية تؤهله من دخول الجامعة، والحصول على عمل رفيع ومستقبل مشرّف. وتأييداً لهذا الرأي، ففي كتاب صادر عام 1987 عن «لجنة الارشاد عن سياسة الهجرة الاسترالية» (ص 20) تقول ان الشباب اللبنانيين على وجه الخصوص حظهم ضئيل في الحصول على تعليم معقول، ومن ثم فان فرصتهم في الحصول على العمل والدخل المعقول هي اقل من الشباب الاسترالي، والجاليات الاثنية الأخرى.
وفي تقرير لصحيفة الهيرالد مأخوذ عن دائرة التعليم، ان نسبة الاقبال على تعلم اللغة العربية في المدارس الاسترالية يوازي 2،7 في المئة فقط من مجموع اللغات الاثنية،وهذه نسبة ضئيلة جداً، وحسب معرفتنا انه يوجد مدرستان عربيتان واخرى اسلامية فقط في سيدني. فإذن تعلم الثقافة والحضارة العربية للطلبة العرب الى جانب التنشئة العربية الصحيحة في المنزل، لهو الطريق السليم نحو خلق هوية عربية من الشباب الناجح.
ان هناك حاجة ماسة لدراسة اوضاع الجيل العربي الثاني، دراسة ميدانية مبنية على الحقائق والارقام لمعرفة اسباب اخفاق معظم الطلبة العرب في اتمام التعليم العالي، حيث ان افضل استثمار مادي ومعنوي هو الاستثمار في قطاع التعليم، والحصول على وظائف مناسبة مقبولة المستوى، لأن هذا الجيل هو الذي سيحمل التراث العربي، ويحافظ عليه عبر الأجيال، والا ضاع التراث العربي في هذه البلاد. فيجب ان نؤهل هذا الجيل ونعلمه كيف يحفظ الأمانة وينقل الرسالة ويتحمل المسؤولية.
الفصل الخامس : تأثير العرب على استراليا
حافظ العرب الاستراليون على عاداتهم وتقاليدهم العربية، مثل حسن الضيافة والكرم والاعتماد على النفس، والتركيز على العائلة كوحدة اقتصادية واجتماعية اولى للمجتمع. وهذه صفات يفتقرها المجتمع الاسترالي عامة. فقد اسس العرب التنظيمات العربية على مختلف انواعها، لتعكس الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والترفيهية لتحقيق الهوية الوطنية والدفاع عن القضايا العربية. ففي مجال الموسيقى مثلاً: اسست فرقة الفلكلور اللبناني لتشارك في الاستعراضات الاسترالية منذ عام 1930، كما ان اماكن الحفلات والملاهي، والمطاعم، والمراكز المختلفة هي ملتقى العائلات والأصدقاء، وهي تمثل همزة الوصل في اللقاء بين المستوطينين القدامى والاستراليين والعرب الجدد، لتقوية مفاهيم الثقافة واللغة العربية بينهم. وفي مجال الأدب العربي والتراث يوجد ما يقارب عشرة صحف عربية محلية. اما اللغة العربية فتدرّس في جامعات في استراليا، وفي بعض المدارس الاسترالية. وتكتب وبخطوط بارزة لافتات على واجهة المحلات العربية مثل المطاعم والمخازن والملاهي، وتتكلم بها الاذاعة والتلفزيون الاثني. واللغة العربية هي سادس لغة في العالم والتي هي لغة القرآن الكريم، واصبحت بذلك جزءاً لا يتجزأ من ثقافة المجتمع الاسترالي. كما وان الثقافة العربية لها تأثيرها على الفن والموسيقى والرقص، فيوجد عدد كبير من الملاهي والنوادي العربية التي تعزف الموسيقى العربية، ويدور فيها الرقص العربي الشرقي، حتى ان بعض الراقصات من اصل غير عربي يشتركن في الرقص في الملاهي والحفلات. وكثير من روّاد النوادي العربية استراليون الى جانب العرب. كما ادخل المهاجرون العرب معهم فن الطهي، حيث تنتشر المطاعم العربية بكثرة في انحاء الدولة، وتقدم فيها الوجبات العربية الشهية.
اسس العرب مختلف الكنائس والجوامع ذات الطقوس العربية الشرقية، وقد ساهمت هذه المعابد في اغناء ثقافة المجتمع الاسترالي. ومن ضمن المساهمة العربية في مجال الدين فقد ترأس المطران جبران الرملاوي اتحاد الكنائس الاسترالية لعدة سنوات وكان المتحدث الرسمي باسمه، والمدافع عن القضايا الدينية والانسانية. وقد منح الأب نيقولا منصور راعي الكنيسة الارثوذكسية في سيدني وساماً لخدماته الجليلة للجالية. ومنح عام 1988 انطون الراهب وسام الاستحقاق الاسترالي لخدماته للطائفة المارونية والجالية اللبنانية.
اما الديانة الاسلامية، فهي ثاني ديانة من حيث الحجم،و حيث يعتنقها مائة وخمسون الف مسلم استرالي. والمسلمون الاستراليون يحافظون على هويتهم واعتقاداتهم الدينية، وهم نشيطون في نشر الرسالة الاسلامية ، فقد شيّدوا الجوامع في الولايات الرئيسية، وجلبوا الأئمة والشيوخ من الدول العربية، فقد وجدت بذلك اتصالات بين الطائفة الاسلامية في استراليا والمراكز الدينية العالمية مثل المملكة العربية السعودية والعراق وليبيا والكويت، وبذلك اصبحت استراليا اقل انعزالاً عن العالم الديني. والاتحاد الاسترالي للمجالس الاسلامية هو المجلس الأعلى الذي يضم المسلمين في تنظيماتهم في الدولة. ومن اهم وظائفه نشر تعاليم الديانة الاسلامية في استراليا، وبناء الجوامع والعناية بها والاشراف عليها، وتوعية الشعب الاسترالي بالديانة الاسلامية، وتنظيم التدريب الروحي للشباب المسلم. وقد منح علي روده رئيس المجلس الاسلامي لولاية نيو ساوث ويلز عام 1988 وسام الاستحقاق الاسترالي تقديراً لخدماته للجالية الاسلامية الاسترالية. وطبعاً كل هذا ساهم في اثراء الثقافة الاسترالية. نتيجة تفاعل واحتكاك العرب بالاستراليين يحدث نوع من التعاطف نحو القضايا العربية، وتفهم الثقافة العربية. فالعرب يحملون الولاء لوطنهم الأم الى جانب الولاء لبلديهم الجديد استراليا، مما يعمل على ايجاد علاقات طيبة بين استراليا والبلاد العربية. فان تعميق المعرفة من خلال الاختلاط بين الثقافتين، يخلق جسراً من التقارب والتفاهم بين العرب والشعب الاسترالي، وهذا ما يجب ان يسعى اليه العرب في استراليا.
يتبع
عام 1942 في الحرب العالمية الثانية كان برج مكتب بريد استراليا في مارتن بليس وعليه اكبر وأدق ساعة في البلاد شاهقاً من بين المباني.. وتخوفاً من تحديد الطائرات الحربية اليابانية له لضرب مركز سيدني التجاري.. تم في ذلك الزمن هدم البرج وفك الساعة الكبرى.
وهذا الاسبوع يقوم الخبراء في فك الساعة الأثرية.. وكانت المفاجأة انه لوحظ في داخلها مكتوب بالتباشير كلمة «الأبدية» Eternity بيد الشخصية الاسترالية التاريخية اسمه آرثر ستايس. ويقوم الخبراء الآن بكل عناية الحفاظ على تلك الكلمة بيد ستايس الذي كتبها بكل ذكاء أثناء فك الساعة عام 1942. فمن هو آرثر ستايس وماذا يقصد بكلمة الأبدية.. ولماذا عمد الى كتابتها.. والتي كُتبت.. نصف مليون مرة في مناطق سيدني:
وُلد آرثر في منطقة بالمين عام 1884.. وكانت حياته صعبة للغاية.. كان أبواه مدمنين على الكحول وأهملا تربيته والعناية به.. فعانى الفقر الشديد.. أمضى طفولته في سرقة قوُته اليومي مثل الخبر والحليب من سلات القمامة.. لم يدخل المدرسة وحينما بلغ سن 12 عاماً دخل الإصلاحية وبات تحت رعاية الدولة.. وتأثر بالظروف المعيشية المذرية في الاصلاحية اذ أدمن على إحتساء الكحول.. وبعد إطلاق سراحه عمل كحارس لأوكار لعب القمار غير القانونية.. وحينما اصبح في العشرينات من عمره كحارس أيضاً لدور الدعارة.
في تاريخ 6 آب/ اغسطس عام 1930 حدثت له واقعة غيرت حياته رأساً على عقب.. دخل كنيسة سانت برنابا ذات يوم في منطقة برودواي في سيدني.. واستمع الى موعظة دينية مؤثرة.. دخلت على أثرها كلمة يسوع المسيح في قلبه.. تحسس أعماقه وتأكد له انه انسان خاطئ في حياته وفي سلوكه.. وان الخلاص من حياة الخطية هو هدية من عند الله.
خرج من الكنيسة حزيناً متأثراً.. وإستلقى تحت شجرة تين كبيرة وأخذ يبكي بمرارة نادماً على أفعاله الشريرة.. قرر التوبة عن ارتكاب المعاصي.. وتعهد بأن يكون مخلصاً ليسوع المسيح.. وأصبح في ذلك اليوم واحداً من أولاد الله المؤمنين.. وفي لحظة حاسمة هدأت ثورة نفسه وشعر لأول مرة بالسلام الحقيقي بداخله.. دخل في علاقة روحانية وعلاقة مع المخلص.. تغير آرثر وأصبح انساناً تقياً طاهراً مؤمناً يخاف الله ويحبه.
وبعد سنوات معدودة بينما كان آرثر يصلي في الكنيسة استمع الى موعظة عن الحياة الأبدية أثرت فيه جداً.. كان قد ألقاها القس الراحل إيلي وهو يمسك بالكتاب المقدس وحب يسوع المسيح ينير وجهه.. أكد القس في الموعظة ان كلمة الابدية ظهرت في الكتاب المقدس في العهد القديم في إصحاح التكوين وفي العهد الجديد في المسيحية على الصليب.. هنا أخذ آرثر يصرخ ويبكي بطريقة مرتجلة عفوية قائلاً:
أتمنى ان أُدخل هذه الكلمة المصيرية في اعماق كل فرد في سيدني.. ويعرف الناس اين سيقضون الابدية في الجنة ام الجحيم.. سجد آرثر في كنيسة برنابا امام المذبح وقال: «يارب إنني طوع إرادتك فأرسلني الى حيث تشاء».
أخذت كلمة الأبدية تطن في ذهنه وشعر بصوت الله القوي يتردد في اعماقه بأن رسالته هي كتابة كلمة «الأبدية» في كل مكان في شوارع سيدني حتى تدخل كل قلب ويتذكرها كل فرد.
وبالفعل خرج آرثر من الكنيسة وكتب لأول مرة كلمة «الأبدية» Eternity بخط دقيق وجميل.. وهو لا يعرف مبادئ الكتابة والقراءة.. ولا يدري كيف دخلت عقله.. مع انه لم يكن يعرف تهجئتها.. ولكن بالنسبة له كانت مصيرية.. وردد كلمة يسوع المسيح: «أنا الطريق والحق والحياة ومن يتبعني لا يمشي في الظلام وله الحياة الأبدية».
وأخذ يكتب هذه الكلمة على الشوارع والبيوت وأينما يذهب حتى أنه كتبها حوالي نصف مليون مرة.
مات آرثر مؤمناً صالحاً.. وأصبحت كلمة الأبدية جزءاً من تراث سيدني.. حتى انها كُتبت بالخط الكهربائي الكبير على جسر سيدني هاربر ليذكرها كل شخص يمر تحت الجسر.
وهكذا فان الساعة الكبرى التي يعيد ترميمها الخبراء هذا الاسبوع تحتوي على الكلمة الوحيدة التي ظلت بخط يد آرثر بالتباشير وهي كلمة الأبدية.. انه تراث خالد.