بقلم العميد وجيه رافع
ان عملية إسقاط الشخصية الفدرالية على الكيان اللبناني بأدوات لبنانية، دون التبصّر في الواقع الاقليمي والدولي للمتغيرات الهائلة التي تحدث في منطقة جنوب غرب آسيا، والتي يشكل لبنان احد اهم الاطلالات الاستراتيجية فيها على الحوض الشرقي للمتوسط ، يشوبها التسّرع والتخبط داخل اقليم معقد يحتوي على كافة التناقضات والاشتباكات الطائفية والاثنية والسكانية المختلفة، وفي ظل تصارع دولي كبير حولها لكونها تشكل منطقة تقاطع ذات اهمية استراتيجية كبيرة بين مختلف القوى الاقليمية والدولية،ولما تشكل ايضاً من قدرة هائلة، وفقاً للمخططات المرسومة، على تأمين عمقاً استراتيجياً كبيراً للامن القومي الاسرائيلي،استناداً الى معادلة جيو- طائفية حيكت بذورها بنجاح هائل لعقود طويلة داخل المختبر اللبناني لصناعة الهويات الممزقة لسكان المنطقة بكاملها
يؤطر الفدراليون اللبنانيون طرحهم الفدرالي استناداً الى مفهوم الحياد الإيجابي، أي الابتعاد عن الصراعات الاقليمية في إطار غير إنحيازي لأي محور من المحاور المتصارعة ، دون ان يتمكنوا من تحديد مفهوم الحياد بطريقة علمية وجغراسية دقيقة،الامر الذي قد يؤدي الى اضطراب بنيوي اضافي في الهوية اللبنانية التائهة يزيد معه احتمال وقوع الحروب بين الولايات وصولاً الى التقسيم
ان الواقعية السياسية تفرض علينا تحليل الحياد المفترض في لبنان انطلاقاً من نظريتين، اي إما من خلال الحياد الارادي التوافقي بين اللبنانيين،او عن طريق الحياد الفوقي المفروض على لبنان قبل المجتمع الدولي،لكن في نظرة عميقة للواقع اللبناني، نجد انه من الصعوبة بمكان، ان يتمكن اللبنانيين من فرض الحياد الارادي،أولاً لغياب الارادة الحقيقية لدى مختلف المكّونات السياسية في البلاد، وثانياً لعدم تمتعهم بالقوة والقدرة المطلوبة على فرضه، فيما لو توافقوا ،افتراضاً، حول تحقيق هذا الهدف، فالمسألة ليست بالبساطة التي يتصورها البعض، فهل اذا قرر الجميع في لبنان بالتخلي عن الجغرافيا، فبماذا سترد الجغرافيا ،وهل ستوافق هذه الجغرافيا في ان تتخلى عن لبنان،وفي الاساس ،هل هناك بارقة أمل أو بصيصه، في ان تتوافق جماعات لبنان السياسية على هذا الحياد، وهي الغارقة حتى النخاع في دهاليز الاقليم، علناً واستتاراً، وهي التي لا تستطيع ان تتنفس إلا من خلال أوكسجين الهواء الطائفي، ولا تشعر بنقاوة هذا الهواء من دونه ومن دون امتداداته الخارجية ، واستطراداً كيف ستكون مؤسسات الطوائف اللبنانية العميقة بكافة اشكالها وألوانها وهي التي تستمد حضورها واستمرارها وهويتها ومكانتها وبرامجها واموالها من دول متحاربة في الاقاليم، وكيف سيوافقون على مقوّمات هذا الحياد وبناءاته وأطره وشكله وكيفيته، وهل من المستبعد ان تستيقظ المؤامرات من جديد بين الطوائف اللبنانية في ولاياتها الجديدة،ام انه تحضير ما لدور معين لقناصل العالم على امتداد الوطن الفدرالي الجديد
ولنفترض جدلاً انهم توصلوا الى تفاهم معين لمقاربة الحياد التوافقي وفرضه فرضاً على الاقليم ، الا يتطلب الحياد الارادي الذاتي وجود بناءات سياسية وعسكرية قوية متماسكة ليصبح الحياد عقيدة الدولة الفدرالية، والمحتوى الاساسي للهوية الوطنية الجديدة للبلاد، والتي عليها ان تعتمد على دبلوماسية قوية وقادرة على فرض الحياد والمحافظة على استمراره، وعلى جيش قوي قادر على حماية اراضي الدولة المحايدة، فيما لو ارادت احدى الدول الاعتداء عليه مستقبلاً لتطويعه او اخضاعه او اخراجه من حياده،بهدف ادخاله في منظومة هيمنتها عند حاجتها الى موقعه وجباله وسهوله وشواطئه ومطاراته ومرافئه، في الوقت الذي تستورد فيه قواتنا المسلحة القطن والالبسة العسكرية، الامر الذي سيؤدي الى تعطيل دور الدبلوماسية اللبنانية استناداً الى المقولة التاريخية المعروفة بالدور المتلازم والمتحد للجندي والدبلوماسي
بعيداً عن الغموض والضبابية، وبعيداً عن اللبس والتدليس، ان الحياد الارادي المستقل، ليس انسحاب او تراجع او ضعف، بل هو دور وقرار استراتيجي كبير تعوزه القوة والارادة والوسائل والادوات، لحمايته وتأطيره بنفس المعايير التي تحتاجها الدول الساعية للسيطرة والهيمنة والنفوذ، في الوقت الذي يُصنّف لبنان في أدراج الخارجية الاميركية، دولة غائبة كلياً عن اي تأثير في الاقليم، اي انها ليست لاعباً اقليمياً،لا بل ليست بلاعبة محلية داخل حدودها، اي انها فاقدة لقدرتها على فرض خياراتها داخل البلاد والسيطرة على كافة اراضيه سيطرة كاملة
ان اقامة النظام الفدرالي في لبنان استناداً الى مفهوم الحياد الايجابي الارادي، كما هو مطروح، يبدو طرحاً رومانسياً سياسياً حالماً بالرغم من جاذبيته، لان لبنان ما زال لتاريخه مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بجيوبوليتيك المنطقة، يُصعب جداً فك هذا الارتباط بالوسائل اللبنانية، لكن هذا النظام قد يصبح ممكناً باحتمال ضعيف جداً، عندما يتحول الى مصلحة اقليمية ودولية تبدو بعيدة المدى حالياً، فالاسطول الاميركي الذي تشطّط على شواطئ لبنان في العام 1958 لوقف المدّ القومي العربي الناصري عند حدود خيمة الرئيس الراحل شهاب، بهدف حفظ الوظيفة السياسية للكيان اللبناني في الاقليم، وليس لدعم الرئيس الراحل شمعون كما اعتقد البعض، هذه الوظيفة ما زالت قائمة ومستمرة ومتجهة الى توظيفات مختلفة آتية لا محال ،اذ ان الوضع في لبنان، كما يبدو،لن يستقر قبل تمرير كافة صفقات المنطقة الملتهبة ومعرفة اتجاهات الرياح فيها
بعد استعراض العوائق السياسية والدستورية لتحقيق الفدرالية في لبنان في مقالة سابقة، وبعد عرض الصعوبات العميقة لمفهوم الحياد الارادي التوافقي،لابد من اجراء قراءة لاحقة لصعوبة اعتماد الفدرالية في لبنان من خلال توافق اللاعبين في المنطقة عليه وفرضه على اللبنانيين فرضاً، وصولاً الى تحليل الوظيفة الجغراسية للكيان اللبناني وعلاقته الديالكتيكية المعقدة مع «دول» وجيوبوليتك المنطقة.