بقلم رئيس تحرير مجلة النجوم / وديع شامخ

تشكّل القراءة، والقارىء معا إحدى الدعائم الرئيسية في دورة إستحالة الأثر المكتوب ، شعراً أم سردا ً أم فكراً أو فناً.

وتساهم في تفعيل حلقات التلقي بين « المنتج ? الباث-، والقارىء، وما بينهما فضاء الإتصال»

فالمنتج والقارىء يدخلان في علاقة مشاركة وجدل واقعي وتخيلي ، وتلاقح بين عوالم المنتج والمؤول للخروج بأفق جديد ، أفق الإنتظار حسب « ياوس « ينتجه القارىء الضمني حسب آيزر ، وهما من منظري مدارس التلقي ، كما جاءت بها الشكلانية والبنيوية والتفكيكية الخ . وفتح باب الدرس «الهيرمنطيقي»مشرعاً لإعادة قراءة المتن وتأويله .
…….
في إحدى جلسات إتحاد الأدباء في البصرة أشار الراحل المبدع الشاعر حسين عبد اللطيف الى مصطلح جديد في القراءة ، وصاح متوجعا « أأن نقرأ بحب»

فهل القراءة تحمل عداونية كي نطلب من الآخر أن يكون محبا لنصوصنا أم لنا شخصيا ، وهل القراءة عقد تضامني بين المنتج والمستهلك كأي عقود أخرى في الفضاء الإنساني العام

ولماذا نفترض قارئا محباً وليس نداً ومشاكساً ،ومنتجا آخر للنص بوصف القراءة جدلاً أو اعادة إنتاج النص في ظل حوارية ، لا تفترض المحبة أو البغضاء ، بقدر دخولها في علاقة جدلية جمالية وتفكيكية للنص وفق ضوابط متعددة حسب درجات وعي القارىء ومستويات التلقي ووعياً جمالياً ، أو استرخاءً رخيصاً بشهوة وغنج

……..
لا تخلو ذخائر الدرس النقدي العربي القديم من هذا الإشتغال على العلاقة بين المنتج والمتلقي ، رغم حالة الشفاهية السائدة آنذاك، وتوسط النقاد بين المنتج وخصومه على طريقة الجرجاني في كتابه « الوساطة بين المتنبي وخصومه» « الذي ُيعد كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني (392 هـ) ثمرة لما أثاره شعر أبي الطيب المتنبي (354 هـ) من حركة نقدية واسعة في القرن الرابع الهجري، بعد أنْ هدأت آثار تلك المعركة التي دارت حول شعر أبي تمام والبحتري في القرن الثالث الهجري. إن كتاب الوساطة يمثل في مجمله دراسة موضوعية لشعر أبي الطيب، ولمواقف خصومه منه، وكان الجرجاني يصدر فيها عن رؤية القاضي الذي يجمع الأدلة والقرائن والمسوغات التي تسعفه في إصدار حكم عادل». أو على طريقة أعلى في فهم الرسالة وبيانها كما في كلمة ابي تمام حول التباس العلاقة بين الشاعر والقارىء أو المستمع آنذاك وجوابه عن سؤال : لماذا تقول ما لا يُفهم فقال لماذا لا تفهمون ما يُقال، أو رده : لا تسقني ماء الملامة إنّني.. صبٌ قد استعذبتُ ماء بكائي. أرسل أحد النقّاد وعاء لأبي تمّام وقال له: املأ لي هذا الوعاء بماء الملامة. فأجابه أب وتمام: أعطني ريشة من جناح الذلّ، إشارة الى استعارة القرآن في القول « وأخفض لهما جناح الذل»

كما كان للجاحظ رأي لا يخلو من قرابة في هذا الشأن ، حول المعاني والأفكار ووجودها على قارعة الطريق ? قارعة التلقي ? يتلقفها العربي والأعجمي وأن العبرة في صياغتها ولبوسها المعاني و الصور الجديدة .

ومما بدا لنا في إستعراض الدرس النقدي العربي القديم ، غياب القارىء الضمني والقارىء المنتج ، لعدم وجود لغة فضاء إتصال كتابي والاستعاضه عنه بفضاء صوتي مباشر ينقل الإحساس والفورة في التلقي الصائت، لذا تواجد الدارسون والنقاد للقيام بالوساطة بين المنتج والمتلقي، في فضاء ملتبس بين الحب والكراهية وأحكام القيمة، التي تصدر من شعراء كبار كأبي العلاء المعري عندما سئُل عن الأشعر بين « المتنبي وابي تمام والبحتري « فقال « أن المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر هو البحتري»
إذن القراءة في المتن الشعري وفقا للمنظور النقدي العربي القديم تخضع لمسوغات شخصية وتنتج رأيا ً أما في الوساطة أو في الانحياز الشخصي ، ويبقى المتلقي أسيراً لسلطة النص والنقد المترفع دون النظر الى مساحة الرأي ومستويات التلقي .
……….
أستطيع أن اقرأ بوضوح صرخة الشاعر الراحل حسين عبد اللطيف عن القراءة بحب كإضافة نقدية ومقترح جمالي يضاف الى سلسلة الفتوحات النقدية للنص وهو يغذ السير الى المتلقي، القارىء لخلق كيمياء مضادة وتفاعل جديد واكتشاف وحدات قياسية عن ثمرة النص المشتركة بين الكاتب والقارىء، سيما وأن فضاء الإتصال عبر الثورة التقنية الكبرى في التواصل ، قد منحت المؤلف ? الباث- والقارىء قدرات هائلة للتحرر من سطوة الرقيب ? الناقد – ، وسطوة الرقيب الحاضن ? الصحافة ، الكتاب ، الخ ..

هذا الفضاء قد حولّ علاقة المتلقي بالنص إختيارية أولا ولايشوبها القسر، وهنا تكمن قوة العلاقة بين النص والمتلقي بفعل قوة الحب وغريزة الكشف .

عند ذاك سيكون الكاتب المنتج على تواصل مباشر بين القارىء وبينه، دون موانع وسواتر مزاجية قارّة ، ويكون النص مادة للمعرفة واثراء الحقل الجمالي عبر جدل بلا أسوار .
.