بقلم العميد وجيه رافع

يطرح البعض من اللبنانيين  إمكانية التوافق على إقامة دولة فدرالية في لبنان، انطلاقاً من قناعات هذا البعض،وهي صحيحة طبعاً، بأن الدولة المركزية القائمة اليوم دخلت في اللا أفق ولم تعد تشكل إطاراً سياسياً واقعياً لتعايش المكونات اللبنانية، لكون هذه المكونات قد تضادت عميقاً بين بعضها البعض بحكم تشتتها وولاءاتها الخارجية المتعددة شرقاً وغرباً ، فأصبحت طوائف لبنان تتصارع فيما بينها للسيطرة على الحكم المركزي في البلاد بهدف الحكم والاستقواء والاقصاء، لا بهدف تطوير مؤسسات الحكم والحوكمة في البلاد.

انطلاقاً مما تقدم ، هل يمكن للبنانيين اعتماد المعيار الفدرالي، وهل الفدرالية قادرة أن تقدم أجوبة ممكنة في سبيل معالجة الإشكالية المذكورة أعلاه، وهل هي متاحة أو ممكنة، وما هي العوائق والمواقع التي تمنح أو تعيق تقدم الطرح الفدرالي في لبنان؟.

يمكننا مقاربة هذا الموضوع من خلال مسارين هما:

1- الفدرالية والواقع السياسي والدستوري ذات الخصوصية اللبنانية.

2- المنطلقات الواقعية لهذه الفدرالية في ظل الواقع الجيوبوليتيكي في الإقليم.

في الشكل قد يرى البعض بأن الحل الفدرالي سيؤدي إلى استقرار المكونات اللبنانية في وحدات سياسية ودستورية داخلية تقدم لها حياة أفضل وأسهل مما هي عليه في الدولة المركزية بالإضافة إلى انه يجيب عن تساؤل قديم ، وهو لماذا تتمتع الطوائف الكبرى بامتيازات كبيرة جداً تجعل منها جماعات ذات خاصية طبقية متمايزة عن الطوائف الصغرى الامر الذي يولد لدى هذه الاخيرة قهراً اجتماعياً وسياسياً يمنعها من  التمتع بحقوق سياسية كاملة،بالإضافة  إلى النتائج المهترئة التي توصلت إليها الدولة المركزية.

ان التسرع والسطحية في مقاربة هذا الموضوع قد يؤدي إلى حدوث أخطار جمة على الكيان اللبناني أين منها الأخطار التي تعرضت إليها الدولة المركزية.

إذ أن البعض ينظر إلى الخيار الفدرالي من زاوية تمتع الطوائف اللبنانية بأسلوب حياة متجانسة تعيش فيه وفقاً لثقافتها وتركيبتها المجتمعية الخاصة دون النظر إلى التعقيدات الشائكة الكبيرة التي ستواجهها الدولة الفدرالية ومؤسسات الحكم فيها، فالدولة الفدرالية يجب ان تقدم نفسها كوحدة سياسية قائمة وموحدة أمام المجتمع الدولي وفي سياق العلاقات الدولية مثل كافة الدول الفدرالية في العالم،فكيف سيستطيع اللبنانيون تحقيق ذلك في الاتحاد الفدرالي، فيما هم عليه من اختلاف جذري عند مقاربة السياسات الخارجية والدفاعية الملائمة للبلاد وقد عجزوا عن ذلك في الدولة الحالية ، لا بل كانت هذه المسائل في صميم تفرقهم واختلافهم وذلك في ظل التشتت الكبير للهوية الوطنية اللبنانية،وبالتالي كيف سيتم قراءة الخصوصية اللبنانية في النسق الفدرالي المفترض.

ان اعتماد النموذج القياسي في صياغة الفدرالية اللبنانية بحاجة إلى كثير من التبصر والهدوء لأنه لا يؤدي إلى نتائج سليمة وواقعية، فلكل دولة فدرالية واقعها الثقافي والسياسي والمجتمعي وموقعها الجيوبوليتيكي الخاص بها، وبالتالي تصبح مسألة القياس مسألة مشوّهة وغيرمنطقية لأنه بموجب البناء الفدرالي المفترض سيتم تقسيم الوحدات السياسية الداخلية وفقاً لخلفية مذهبية وطائفية دون أن نهمل أن الكيان اللبناني الذي قام على شرذمتين، مسيحية وإسلامية أصبح حاليا يقوم على شرذمات أربع : مسيحية وسنية وشيعية ودرزية،وبالتالي يصبح التصور الفدرالي اللبناني يحتم تقسيم الولايات الداخلية اللبنانية إلى اربعة وحدات سياسية،وعليه، فإن الذين يتخذون من دولة الإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال نموذجاً قياسياً، يسقطون الخلفية التي قامت عليها الوحدات السياسية الإماراتية والتي هي ذات خلفية قبلية مشيخية ،بالاضافة الى ذلك، فالإماراتيون لا يعانون من تشتت في الهوية الإماراتية كما هو الحال في لبنان لأن الوجدان الإماراتي يستبطن وعياً وطنياً إماراتياً كاملاً ولا يشكل اي تهديد انفصالي ممكن عن الدولة الاتحادية في يوم من الأيام،

لكن يستحضر نفسه هنا نموذج يوغوسلافيا الاتحادية السابقة، والتي أقامت وحداتها السياسية وفقاً لخلفية طائفية صافية، جرى تأطير اتحادها بفعل القوة والديكتاتورية والعقيدة الشيوعية الصلبة، ولكن بمجرد سقوط جوزف تيتو والاتحاد السوفياتي السابق، سقط الاتحاد فوراًوتقسم إلى سبعة دول بعد حروب طاحنة بينها، وهذا ما يمكن توقعه للبنان لأن الخلفيات الطائفية للاتحادات الفدرالية لا يمكن لها أن تستمر أو تتعايش مع بعضها إلا بفعل القوة، وهذا غير مطروح في لبنان.

ويستمر التساؤل الحذر، فكيف سيقيم اللبنانيون ميثاقهم الوطني الفدرالي الجديد أسوة بميثاق الدولة المركزية المعقد و المهترئ والذي كان عبارة  عن لاءتين، لا للشرق ولا للغرب، فإلى كم لاء سنحتاج في البناء الفدرالي المفترض وهل لاءتا بشارة الخوري ورياض الصلح كانتا لاءتين فعليتين أم وهميتين، وهل يعلم الفدراليون الجدد أن بشارة الخوري قد توافق مع السفير الفرنسي وأخذ موافقة فرنسا على الميثاق الوطني الحالي، وأن رياض الصلح استحصل على موافقة كل من حكومات مصر وسوريا والعراق قبل إعطاء موافقته النهائية عليه،

وبالتالي كيف ستأخذ الولايات الطائفية الأربع موافقتها من ارتباطاتها الإقليمية والدولية المعلنة والواضحة، وهل ستحصل عليها، وهل يمكنها الإقدام على الخيار الفدرالي دون هذه الموافقات، وافتراضاً ، إذا حصلت عليها ما العمل عند سقوط تسوية هذه الموافقات التي بالتأكيدستكون مرحلية وستتغير في المستقبل لصالح مجهول كبير خطير فالتسويات تتبدل بتبدل اللعبة واللاعبين،

الامر الذي سيؤدي إلى حروب حتمية بين الولايات كمقدمة حتمية إلى التقسيم.

واستطراداً، كيف ستصاغ الصيغة الاتحادية الجديدة اسوة بصيغة 43، لكي يوزعوا من خلالها المناصب والمواقع والصلاحيات المختلفة في المؤسسات الدستورية والسياسية والقضائية والإدارية والعسكرية والأمنية والضرائب الاتحادية وغيرها من الأمور على الطوائف في لبنان الفدرالي الجديد، فالمسألة بغاية التعقيد ويسودها الضبابية والغموض واللا يقين.

أيضاً، كيف ستكون مؤسسات الحكم الفدرالي، وهل سيكون نظاماً برلمانياً، أو رئاسياً، او شبه رئاسي، ام سيضيع التوصيف كما هو الحال في الدولة المركزية، لتُتخذ القرارات خارج المؤسسات الرسمية، ومن هي الطائفة التي ستقبض على مفاتيح البرلمان الجديد، وهل ستكون الدولة المفترضة برأسين إجرائيين معقدين كما هو الحال حالياً، أم برأس واحد، ومن سيرأس هذا الاتحاد والى أي طائفة سينتمي، أم أن الرئاسة ستكون مداورة بين الطوائف، ام سيُشكّل مجلسٌ رئاسي، لتعود معه أشكال مختلفة من المحاصصة وتبادل التهم والخلاف على الصلاحيات وعلى تمزق مذهبي وطائفي بالنكهة الفدرالية

واستتباعاً، كيف ستقسم هذه الولايات الحدودية الطائفية في الوقت الذي تتداخل فيه الطوائف اللبنانية بصورة متشابكة، وكيف سيتم التعامل مع الهجرات الداخلية، وما مصير الاقليات الطائفية في هذه الولايات، وهل ستتمكن المؤسسات الفدرالية القضائية من حمايتها فيما لوتعرضت الى إضطهاد، ومن سيقبض على المؤسسة العسكرية الفدرالية وباقي الأجهزة الامنية، وكيف ستتمكن الحكومة الفدرالية من التعامل مع الولاية التي ترغب بالانفصال لاحقاً،أم سيتحول الموضوع الى صراع طائفي وانقسامات في المؤسسات الفدرالية،وما هي المواقف التي ستتخذها السلطات الدينية في النظام الفدرالي، هل ستستمر باستخدام الله من اجل حماية الفاسدين،تلك السلطات التي حرّفت المقولة الشهيرة للقديس أوغسطين وحولتها الى: «ما لقيصر لقيصر وما لله لنا ولقيصر».

واستكمالاً للعوائق والصعوبات التي لا تعد ولا تحصى، هل من الممكن ان يستقيم نظام فدرالي دون قواعد حزبية حديثة، وما هو مصير البناء الحزبي الحالي، هل ستستمر بصيغتها الحالية داخل الولايات لتمارس التجييش المذهبي والطائفي بهدف تحسين شروط تمثيلها في السلطة الفدرالية، هذه الاحزاب التي برعت باستغباء الشعب لعقود طويلة مستخدمة مبادئ وطنية دفترية مملّة ومهترئة، وهل باستطاعة اللبنانيين اقرار قانون جديد للاحزاب، وما هو النظام الانتخابي الممكن لمؤسسات الدولة الفدرالية، وكيف سيصاغ الدستور الفدرالي الجديد، واللبنانيون عاجزون عن تغيير فاصلة في الدستور الحالي وقواعده المعقدة، ومن سيتولى إدارة المال الفدرالي والى أية خزائن فدرالية دولية سيتحول؟، أسئلة لا تنتهي، وصعوبات تنفيذية كبرى تقف عاجزة امام هذه الطروحات الفدرالية المعقدة.

وايضاً، كيف ستكون الخصائص الاقتصادية للولايات القائمة، وكيف سيتم التعامل مع التفاوت الاقتصادي بين ولاية واخرى عند حدوث هجرات كبيرة من طوائف معينة الى ولايات طائفية اخرى بحثاً عن العمل، أليس من الممكن ان تؤدي هذه الاشكاليات الى مشاكل كبيرة، او حروب بين الولايات، وكيف ستقارب الحكومة الاتحادية سياسات البلاد الاقتصادية والانتاجية، ألن نعود الى نغمة «تبغ النبطية وتبغ البترون»، الامر الذي يؤدي الى تسعير المشاكل بين الولايات.

 في المحصلة،لا يمكننا حصر او تعداد كافة الشياطين المفترسة التي ستتمركز في تفاصيل الحكم الفدرالي لانها ستكون موجودة في كل زواياه، فالمسألة ليست بالسهولة التي يتخيلها البعض، لذلك أنصح الفدراليين الجدد والمنظرين لها، ولو على نية طيبة، الكفّ عن هذا الطرح ومن الافضل لهم المباشرة بالمطالبة بالتقسيم، عوضاً عن إضاعة الوقت والتسبب بإراقة المزيد من الدماء،

 لان الطرح الفدرالي لن يؤدي الى حل حقيقي في البلاد، والى شراكة دينية وسياسية وحضارية كما يروّج البعض، فالطائر الذي اعتقدنا انه طار بجناحيه المسلم والمسيحي، الى اين وصل حالياً، والى اين سيصل طائر الفدرالية الجديد بأجنحته الاربعة الجديدة

لقد اظهرت الايام ان اتفاق الطائف لم يكن الا مجرد وقف لإطلاق النار فهل ستتحول الفدرالية الى مسرح  للدمار ،من يريد اللعب بدماء الشعب اللبناني الطيب والمسكين؟.

وختاماً، يبقى ان كل ما تقدم، يشكل تفصيلاً امام العوائق  الأشد تعقيداً واستحالة، سنحاول في الاسبوع المقبل تقديم أجوبة علمية عليها، وهي المتعلقة بالمعوّقات الجيوبوليتيكية الاقليمية والدولية للطرح الفدرالي في لبنان، بالاضافة الى تحليل مفهوم الحياد عن صراعاتالمنطقة، كما يُنظّر له رواد الفدرالية اللبنانية حالياً.