العميد وجيه رافع
هل سقط النظام العالمي ،أم انه آيل الى السقوط ،هل انتقل مركز العولمة الى الصين، كما يُشاع، ام انه في طريقه اليها بعد انحسار موجة كورورنا ،
أسئلة وقراءات متعددة تواكب التطورات الحالية عالمياً لا بد من التوقف عندها وتحليلها
بهدف الخروج باستنتاجات عقلانية لا بد من مقاربة الموضوع مقاربة واقعية، فكلمة سقوط تعني اصطلاحاً هزيمة،اي ان هناك مهزوم وهناك منتصر يفرض إرادته وشروطه وخططه المستقبلية،في الوقت الذي نرى ان الولايات المتحدة زعيمة النظام العالمي ما زالت تتربع على عرش العظمة والقوة حول العالم أجمع
عملياً، يمكننا القول ان النظام العالمي ذات القطب الأوحد قد سقط كمنتظمٍ او كنسقٍ (System)قادر ان يقود العالم ويواجه كافة اشكال التهديدات العالمية منفرداً،لكنه لم يسقط كنظام (Regime)،اذ ان المؤسسات الدولية لهذا النظام ما زالت عاملة وفاعلة ومؤثرة، والقطب الاوحد المعني ما زال قطباً يمتلك القوة الاعظم في أصقاع العالم، ولذلك فان إعلان نهاية النفوذ الكبير لهذا القطب وانتقال مركز العولمة الى مكان آخر كما يتصّور البعض،ما هي الا مجرد قراءة متسرعة ومشّوشة لا تعكس الوقائع الاستراتيجية على حقيقتها
الحقيقة الجوهرية التي يجب التوقف عندها هي ان الذي سقط عملياً هي العولمة بذاتها، وفقاً لما اختزنته منذ ولادتها من ايديولوجيا وعقائد وافكار وصور،لكنه لم يسقط معها مركز ارتباطها وقطبها الكبير،فالذي سقط هنا هي الفكرة بشخصيتها وذاتيتها،وليس من يقودها او من يحدد اركانها،وبناءً عليه، كيف ستنتقل فكرة سقطت الى مركز قيادة آخر او نقطة ارتكاز اخرى لكي يقودها ويسيطر على مساراتها كما يرى العديد من الباحثين،وهي بالاساس لم تعد موجودة لكي تنتقل، او على الاقل هي في طريقها الى هذا الاتجاه،وعليه فان العولمة التي عرفناها بتطبيقاتها الاميركية، والتي خبرتها شعوب العالم قاطبةً، لم تعد اكثر من حقيبة مليئة بالاوهام في عقول البعض من الرومانسيين
وفي السياق،لا بد من إلقاء الضوء على طبيعة النظام العميق في الولايات المتحدة، فالاميركيون بكافة اتجاهاتهم وميولهم واحزابهم ونخبهم ومؤسساتهم وجنرالاتهم، يكنّون احتراماً كبيراً للمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية،وهم يشتركون جميعاً بخاصية مهمة تقوم على احترام الاقوياء والشعوب النَشطة والدول القادرة للسير في ركب تقدمها وتطورها، والساعية باستمرار الى امتلاك عناصر معينة من القوة، وهم يميلون بحفظ أدوار ومواقع معينة لهذه النوعية من الدول والشعوب ،كلٌ وفقاً لطبيعة قوته وامكاناته واهدافه وتموضعه الجيوبوليتكي،طبعاً لا وفقاً لارادته المطلقة التي قد تتجاوز قدرته، او التي قد تلحق مع هذا التجاوز ضرراً كبيراً بالمصالح الاميركية،اما الدول الضعيفة في رأيهم ليس لها اي دور سوى ما هو محفوظ لها ككيانات ملحقة بالقوى العالمية
هذه الخاصية،واستناداً الى النظريات الجيوبولتكية القائمة على تحليل عميق لمعايير القوة،ستكون حجر الزاوية في المرحلة القادمة والتي يمكن تسميتها ” مرحلة التحوّل الكبير ” التي ستشهد توترات واضطرابات واصطدامات كبيرة وخطيرة في مناطق كثيرة من العالم، مع استبعاد امكانية وقوع حرب عالمية، لاسباب لسنا بصددها حالياً،لكنها ستتمخض في نهايتها، في فترة لن تقل عن عقدين من الزمن، الى قيام منتظم عالمي جديد يجري السير به والعمل على بلورته، وقد بدأت ملامحه تظهر بصورة تدريجية على مسرح العلاقات الدولية، وهذا المنتظم سيطيح بالكامل بمصطلح العولمة، ليحل مكانه مصطلح جديد يواكب الأنساق الدولية المستقبلية
واستبياناً لما تقدم،يُلاحظ بصورة واضحة ان الترامبية السياسية الحالية والتي،على ما يبدو، ستتحول الى مصطلح سياسي سيواكب أدبيات العلاقات الدولية في فترة التحولات الكبرى، هذه الترامبية قد مأسست قواعد قومية اميركية جديدة،وفلسفة عميقة اعادت معها الحصان الليبرالي المعولم الى حظيرته الاميركية،وهي بالتأكيد،حالة لم تلد صدفة،ولم تأتي من فراغ ،وليست صنيعة ساعتها،
اذ انه لا يمكن للرئيس الاميركي الحالي، او لأي رئيس آخر ،ان يتجاهل انه الرئيس الاكبر للمنتدى الدولي المعولم وتقرر ادارته تلك الاستدارة الكبرى، او ان يأخذ اعظم دولة في العالم الى ما وراء عقيدتها او ان يغير فلسفتها وايديولوجيتها وعمقها وحده دون العودة الى مؤسسات الدولة العملاقة، الاقوى والاكثر تنظيماً ودقة وهدفية في العالم
نعم،النظام العالمي يتغير وهو في مرحلة انتقال بينية، بين منتظم ونسق على فراش الموت ،ومنتظم تبدو ولادته آتية لا محالة، بالرغم من المخاضات العسيرة التي سيواجهها في ولادته هذه، وعملية الانتقال هذه لا تجري بتاتاً وفقاً لأي تصورات خارجة عن الارادة العميقة للدولة العظمى، بل انها تتم بارادة اميركية بنيوية كاملة، وحتى بتوافقات سرية بين اللاعبين الجيوستراتيجيين الكبار،فالاميركيون يعلمون جيداً ان العولمة وفقاً للمرتكزات السياسية والاقتصادية التي قامت عليها،وكذلك وفقاً لطرق تطبيقاتها، اصبحت لعبة مُستنزفة،وسوقها الكلي اضحى شركة دولية او بزنس كلي، واصبح من المستحيل مواكبة الواقع الدولي الراهن بالطرق والوسائل القائمة،بالاضافة الى ذلك فهم يقرأون جيداً في واقع التحولات الصينية الكبرى، وكذلك في التحولات الروسية الجارية مع البوتينية السياسية التي تسعى الى تأطير ايديولوجيا عقيدية ندّية مع الاميركيين،وحذرة مع الصينيين،ليست شيوعية بالطبع، لكنها ليست ليبرالية، وهذه الايديولوجيا يجري حياكتها بقوة داخل المؤسسات العميقة في الاتحاد الروسي
ان منتظم الغد سيقوم على علاقات متبادلة بين اللاعبين الجيوستراتيجيين الكبار، الذين يتحضرون للعبة شطرنج دولية جديدة اهم ما فيها، ان الجميع يعلم بدقة اللعبة وتوازنها وحدودها،لذلك ستشهد مرحلة التحول الدولي الكبير استقطابات هامة وخطيرة،اين باقي الدول الكبيرة منها او الاطارات الاقليمية الكبرى، واهمها بالتأكيد الاتحاد الاوروبي كلاعب جيوستراتيجي يعاني غياب الافق واللايقين، وما هي قدرة ودور كل فريق،واين هي المسارح الدولية التي ستتركز فيها النزاعات الكبرى مستقبلاً، والتي ستؤدي الى بلورة نظام عالمي جديد سيسود العالم في القرن الحادي والعشرين