اللبنانيون المؤمنون بضرورة وقف الفساد في بلادهم وتحديداً في دولتهم كثيرون، ولا سيما بعدما ما أصابهم إفلاس الدولة وفقدان المصارف سيولتها وانكشاف اسطورة مصرف لبنان الذي ظنّ حاكمه بعد ولايات أربع أنه لا يخطئ أبداً وأنه مثل الساحر القادر عند كل أزمة ثقة به على اجتراح الحلول وإقناعهم بأنها حلول. لكنهم لا يبدون مقتنعين بالنجاح في ذلك لأسباب عدّة، أولها الطائفية والمذهبية اللتان تقسمانهم وتمكّن زعمائهم من إلهائهم عن مواجهة هذه الآفة بالاشارة الى عدوّ لهم منهم وفيهم يجب الانتصار عليه. وثانيها أن زعماءهم وحكّامهم ودولتهم بمؤسساتها الدستورية ومن توالى عليها وعلى مؤسساتها الأخرى هم الذين يشرفون على مكافحة الفساد اليوم وعلى محاولة إخراجها من نفق الانهيار الذي تقبع فيه. وثالثها أن “الثورة” التي بدأت صادقة وراغبة في التغيير وإن من دون برنامج فعلي وقيادة موحّدة لا حسابات فئوية وإيديولوجية ومصلحية لها ولا انتساب خارجي لها، انكشف عجزها عن الاستمرار والتجدّد والانجاز سريعاً، فاستُغِلَت من زعامات الطوائف والمذاهب والأحزاب، ثم جاء “فايروس الكورونا” فأودى بها. وهم محقّون في ذلك لكنهم قادرون وبوسائل عدّة على المشاركة في محاربة الفساد وذلك بالاستمرار في ضغط الحد الأدنى الممكن على “الفاسدين الذين يدّعون محاربة الفساد”، وبامتناع البعض منهم عن تنفيذ أجندات سياسية يرفع أصحابها راية هذه المحاربة في مقابل خدمات وبدلات معينة. لكن المحاربة الأكثر أهمية هي التي يُفترض أن يقوم بها الإعلام على تنوّعه. والمقصود هنا الاعلام الاستقصائي، وإن عرّض القائمين به الى الأخطار كما يحصل في دول العالم المتقدم. وهو غائب في لبنان في صيغته العملية. إذ أن الجهات الفاسدة تتحارب بواسطة تقارير تسرّبها الى الاعلام الفعلي والى وسائل التواصل الاجتماعي وذلك في مسعى لإبعاد نفسها عن الشُبهة.
لا يعني ذلك طبعاً غياباً مطلقاً للاعلام المذكور. فبعضه القليل يمارسه وباحتراف وببعض موضوعية عددٌ قليل من الاعلاميين، لكنه يوظَّف لمصحلة ايديولوجيا وتحالفات مع جهات هي جزء من الصراع الطائفي ? المذهبي ? السياسي وجزء من الفساد أيضاً. وهناك بعض آخر لا يقتصر على الاعلاميين إذ يشارك فيه سياسيون هواة ومحترفون يدلي كل يوم بـ”إخبار” وخصوصاً بواسطة الاعلام المرئي يوفّره له داعموه من السياسيين ومن أجزاء من مؤسسات الدولة على تنوّعها. الى ذلك لا بد أن تقوم في القضاء ثورة حقيقية من خارج الدولة إذا جاز التعبير على هذا النحو نظراً الى فساد الجسم السياسي كلّه. ويعني ذلك التحقيق والتدقيق في كل إخبار يقدّمه شخص أو فريق ضد شخص أو فريق آخر. إذ أن سياسة الفاسدين وخصوصاً إذا شعروا أن الطوق يزداد إحكاماً حول أعناقهم قد تصبح كشف أخصامهم ومنافسيهم وهذا أمر يمكن الاستفادة منه لتحريض الآخرين على الردّ بأسلوب مماثل، وتالياً للحصول على صورة أكثر دقّة للفساد وممارسيه. في هذا المجال تجدر الإشارة الى السياسيين الذين يتهمون بعضهم بعضاً بالفساد يومياً لا يتجرّأون على كشف تفاصيل ووثائق. والسبب على الأرجح معرفتهم أنهم متورطون أيضاً وأن أخصامهم قادرون على كشف فسادهم. فالوزير جبران باسيل حكى سياسةً في مؤتمره السياسي ولم يكشف شيئاً لفظ كلمة “الترابة” فقط للتصويب على النائب السابق سليمان فرنجية ربما لمعرفته أنه و”أصدقاءه” من رجال المال والأعمال يعرفون عنه وعن الآخرين من المشتبه بفسادهم الكثير. وليس خطأً الظن أن الفساد يجمع السياسيين وغيرهم والمكاسب تفرّقهم. لذلك فإنهم سيعملون كل ما في وسعهم لعدم الوصول الى حرب في ما بينهم تقضي عليهم كلّهم على طريقة شمشوم “عليّ وعلى أعدائي يا رب”. علماً أن تمويل رجال المال والأعمال والمصارف والصفقات والفساد للأحزاب والتيارات والسياسيين والتبرّع لهم بالمال ثمناً لمنصب نيابي أو وزاري أمرٌ لا يوحي بنظافة أي من هؤلاء.
في أي حال قد تكون الوسيلة الأبرز لمكافحة الفساد إقدام قائد كل من “الشعوب” اللبنانية على محاسبة الفاسدين فيها سواء كانوا من عامّة الشعب أو من كباره أو حتى من زعامات مهمّة فيه. وبذلك ينتهي لبنان من “قصة 6 و6 مكرّر”. وهذا اقتراح جدّي لأن أي اقتراح آخر لا يفيد. ويجب أن لا يشعر قادة كل “شعب” بالإحراج جرّاء ذلك فالفساد موجود في كل مكان، وكشفه لا يعني التسبّب بإضعافه أو بإضعاف شعبه. وهذا أمر اعترف به السيد علي خامنئي المرجع الأول والأخير في إيران الاسلامية عندما صارت التظاهرات الشعبية الاحتجاجية على الفساد شبه منتظمة وتالياً قادرة على إفادة أعدائها. ولا يعني ذلك اتهام “حزب الله” بالفساد أو برعايته جرّاء “وجوده” على المعابر البرية والبحرية والمائية كما يقول أعداؤه فهو على الأقل أعدّ وعلى مدى سنتين تقارير مفصّلة وبدأ إحالتها على القضاء. علماً أن نقطة الضعف في ذلك هي معرفته الوثيقة بعدم وجود دولة وقضاء. وعلماً أيضاً أن حلفاءه وأخصامه وأعداءه لم يقوموا بشيء من ذلك. وعلماً أخيراً أن ذلك كله لن يثمر رغم افتقار الناس وزيادة عدد الفقراء وانتقال أبناء الطبقة الوسطى الى الطبقة الفقيرة وازدياد غنى الأغنياء سواء كانوا “أوادم” أو فاسدين. فالحل أولاً وأخيراً سياسي وما لم يتم الاتفاق عليه سيبقى لبنان شعوباً متناحرة ولن يصبح يوماً شعوباً شقيقة ومتعاونة لمصلحة أبنائها ودولتها ووطنها، وإن حنّ عليه المجتمع الدولي و”شحّده” بضعة مليارات من الدولارات تلافياً لحربٍ أهلية جديدة قد يتسبّب الهروب منها بحربٍ مع إسرائيل. وهذا أمرٌ لا يرى العالم أنه مناسب الآن.
في النهاية لا بد من طرح السؤال الآتي: كيف يصدّق الناس الدولة وأركانها ومن كانوا من أركانها عندما يسمعون رئيس دولتهم يقول أمام الإعلام بعد اتفاق الرؤساء الثلاثة لدولة لبنان وآخرون قبل استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري في “عزّ الثورة”: “إذا لم يستطع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة والقوى السياسية والوزراء المعنيون الذين حضروا الاجتماع تحمّل مسؤولية تنفيذ هذه القرارات (ورقة إصلاحية تلاها الحريري من قصر بعبدا). هذا معناه عدم وجود حكم في البلاد”.