بقلم رئيس تحرير مجلة النجوم / وديع شامخ
الإنسان كائن إجتماعي الطبع كما يصفه علماء الإجتماع والنفس ، وهو مخلوق مديني لا تتحقق ذاته إلا عبر الآخر حتى لو كان جحيما على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر .
فلا بد لآخر للحوار والعشرة وتبادل الآراء والخبرات والمحبة والصراعات وحتى الحروب !
فالآخر قدر مهم وشرط حاسم في حياة البشرية على كوكبنا الأرضي .
ومن كنايات البشر في شرقنا خصوصا هو استخدام مصطلحات مبطنة على الزواج مثلا بوصفه « عشّاً أو قفصا ً ذهبياً» وهذه إشارة عميقة على النموذج الجديد للعبودية المطلية بالذهب !
ولعل تاريخ البشرية يشير الى أنماط مختلفة من الحجر على الحريات الإنسانية كرها أم طوعا .
فمنذ وجود الإنسان على هذه الأرض سواء بقصة إسطورة الخلق البابلية مثلا ، ووجود الكائن البشري جاء قسرا ونفيا من نعيم السماء وصفة الألوهية ، أو بحسب الرواية التوراتية في سفر التكوين تحديدا ، بأن وجود حواء وآدم على الأرض جاء بغضب إلهي نتيجة لفساد طبيعتهما الخالدة وإنسياقهما الى تدليس إبليس .
وهكذا بد البشر منفيون في جنتهم الأرضية ، وكأنها حجر اضطراري بعد إمتياز سماوي وخلود في الفردوس .
…..
وتتلاحق العبوديات وفقا لتحليل المنطق المادي التاريخي ويقفز الإنسان والمجتمعات البشرية من دور الى دور فمن مشاعية الى رق واقطاع ورأسمالية الى إشتراكية ، وصولا الى الحلم الشيوعي الذي أجهضت البشرية نفسها في سعيها الحثيث للخروج من أنساق فكرية ايديولوجية مخصوصة حتى لو كانت الحياة فيها من ذهب ..
…….
وعلى المستوى الإجتماعي كان الإنسان يبحث عن حريته في إطار وجوده الفاعل في بيئة مجتمعية تبدأ من العائلة ، المدرسة ، الشارع ، المقهى ، مكان العمل .. الخ .
وبالمقابل هناك نمط من البشر لهم طبيعة روحانية تستمد وجودها الحر والفاعل من توحدها وانعزالها كمنهج صوفي ، وهو منهج باطني تأويلي يقرأ الحياة نصا وواقعا بطريقة حفرية عميقة جدا ، وهذا ما يوفر للعارف حرية كبرى وحبا ينطلق به كرسالة للحياة وعشق للمعشوق الأزلي « الله « ..فالعزلة الإختيارية هنا ليست عزلة سلبية بقدر ما هي أسلوب للحجر الإيجابي الواعي ، اذا جاز التعبير ، للحصول على طاقة فريدة من الحرية والحب عموديا مع الخالق وأفقيا مع المجتمع .
وانا أتحدث هنا عن التصوف بوصفه أسلوبا إنسانيا ليس مخصوصا في مصطلح ديني محض ، فهناك تصوف شعري وفلسفي وتشكيلي وفني وإلحادي أيضا ، وهو بمجمله عملية روحنة الفن على حد تعبير « د.أم الزين المسكيني وهي ترى الصوفية في « الديانة الجمالية « هيجل « ، والتصوف اللغوي « نوفاليس « والشعر المجرد « بودلير « والقصة الصوفية « ساتو « والتكعيبية « بيكاسو « والتجريدية « كاندنيسكي» والتصوف الأنوي « سلفادور دالي «
…..
وحتى لا نقع في باب التعميم في مفهوم الحجر على طريقة شكسبير « لا يُعمم إلا الأغبياء»!
سوف نكتشف حجرا قسريا يتخطى كل تعميم وتخصيص إلا وهو حجر المستبد الجديد والأخ الأكبر الفتّاك المتوج على عرش الموت وهو فايروس كرونا، الذي أجبرنا مرتين : مرة حين يستوطن أجسادنا ويفتك بها للوصول الى الوحدة الكبرى في القبر أو الحجر الصحي الإجباري ، وثانية حين نكون في موقع الدفاع منه فنحجر أنفسنا منه في بيوتنا أو في يخوت يستأجرها الأثرياء للهرب من كورونا عبر بطون المحيطات بأثمان باهظة جدا .
ولكن كورونا يفرض علينا نمطا جديدا وثقافة حياة جديدة في مشارق الأرض ومغاربها ، يفرض علينا عزلة إجبارية مع وفرة إجتماعية عالية قد غيّبتها ثورة الإتصالات الحديثة بكل مخرجاتها …
عزلة نعود بها الى زمن المواقد والحكايات حسب غاستون باشلار ، ولكن بطريقة مختلفة تماما ، لأن التصرف في العزلة سيكون وفق ما يمتلكه الإنسان والعائلة معا من ثقافة التعايش القسري ثانية !
فهل يدجن الشاعر مجساته ويطوي أجنحة خياله « ويطيق الغلّ في عنقه ويقبل قيدا؟؟» أم أنه سيكسر طوق عزلته ويغرد خارج السرب ؟؟
كورونا لا يمزح وهو جاد جدا برجوعنا الى أنفسنا لكي نأخذ مساحة من التأمل لنفحص وجودنا الإنساني ليس كمثل زوج فاشل يلتمس الخطوات العاثرة لتذكر أيام عرسه ، , أو تاجر مفلس يبحث في دفاتر حساباته عن مديونية قديمة .
…..
كورونا محطة حجر صحي فرديا وعائلياً ومسؤولية عالمية لمقارعة هذا الوباء المُستبد القاتل .
ولا شك أن الإنسانية بكل ثقلها الحضاري وحسها المديني وعشقها للحياة سوف تقاوم هذا الوباء وتسحقه بعقول العلماء وصانعي الجمال والأمل مغمّسة بلمسة روحية عالية ليتحقق أكسير الإنسان في عزلته وحريته معا .