تختلف نظرة المؤمن بالله الى الحياة والاحداث عن نظرة الآخرين، لأن الله، بالنسبة للمؤمن يعطي معنىً مختلفاً للحياة وللصعوبات التي يواجهها في مسيرته اليومية، وبُعداً مختلفاً للأزمات التي تعترضه خلالها.
وكما نعتبر ان ما نحققه في حياتنا من ثروة ونجاح وصحة وعائلة هو هبة من الله، كذلك الإيمان والصبر والمحبة والرجاء هي عطايا منه، تساعد الانسان المؤمن على متابعة حياته العابرة، على امل بلوغ الحياة الأبدية.
لذا نحن مسؤولون عن المواهب والوزنات، وعلينا ان نحسن التعامل معها من اجل الخير العام. وعدم الالتزام بهذه المسؤولية وغياب تدبير المواهب يسيء ليس لنا كأفراد، بل يضر ايضاً بالآخرين حولنا.
- امام حالتين متناقضين
مساء السبت في مطلع شهر شباط/فبراير اقدم صموئيل ويليام ديفيدسون، البالغ من العمر 29 عاماً، على صدم مجموعة من الاطفال، كانوا على دراجاتهم الهوائية، في ضاحية اوتلاند. كان صموئيل يقود سيارته بسرعة جنونية، وهو تحت تأثير الكحول، ثلاث اضعاف الحد الادنى المقبول. انحرفت سيارته الى الرصيف وصدم الاطفال بشدة.
فقتل من عائلة عبدالله الطفل انطوني (13 عاماً) وشقيقتيه انجيلينا (12 عاماً)، وسيانا (9 سنوات) كما قتلت ابنة خالتهما فيرونيكا صقر (11 عاماً واصيب قريبهما الطفل شربل قصاص (10 سنوات) الذي لا يزال في غيبوبة داخل غرفة العناية الفائقة بسبب اصابته الخطيرة في الرأس، بينما اخلي سبيل طفلين بعد ان تلقيا الرعاية الطبية الملائمة، لإصابتهما الطفيفة.
هكذا، وبسبب الاهمال وعدم المسؤولية او الالتزام بالقوانين وشروط القيادة، حصد صموئيل ديفيدسون ارواح اربعة اطفال ابرياء وجرح آخرين، فأدمى قلوب اكثر من عائلة، وصدم ابناء الجالية اللبنانية بأسرها، كما صدم المجتمع الاسترالي، لفظاعة الحادث.
ان يخسر الانسان طفلاً، فهو حدث يكسر قلب الوالدين. لكن ان تخسر عائلة ثلاثة اطفال دفعة واحدة. فهذا اكثر من مأساة. انها كارثة وصدمة شديدة، قد تدفع الانسان للتساؤل: اين الله؟ ولماذا اسمح بذلك؟ وقد تؤدي مثل هذه الصدمات الى حال من الانكار والكفر والجحود بالعزة الالهية، خاصة ان سبب القتل هو الاهمال، واللامبالاة ومخالفة القوانين، والاستخفاف بالسلامة العامة.
الحادث الذي صدم المجتمع الاسترالي بأسره كان اقل وطأة من الصدمة التي سببها والدي الاطفال، داني وليلى عبدالله، نظراً لردود الفعل لديهما، على خسارة ثلاثة من ابنائهما الستة.
ليس بمقدور احد ان يتصور خسارة طفل واحد، ناهيك عن خسارة ثلاثة اطفال دفعة واحدة، كل المفاعيل والمؤثرات تصبح مضاعفة: الصدمة مضاعفة، والحزن وحرقة القلب، وحجم التساؤلات ومحاولات استيعاب الصدمة والتعامل معها. العديد منا يأملون ألا يضطروا الى تحمل ما تعاني منه عائلة عبدالله. فالحزن سوف يلف حياة افرادها لسنوات طويلة.
وحدها المغفرة، وهي واحدة من اهم الفضائل التي يزعم البعض انها ليست فضيلة، بل مجرّد ضعف وقبول بالظلم. فالصحيح بنظر كثيرين هو الانتقام والثأر عملاً بقانون العين بالعين والسن بالسن.»
لكن عائلة عبدالله فضلت الحالة الاولى: اي المغفرة غير المشروطة، رغم قساوة الحياة بعد خسارة ثلاثة من ابنائها.
دون تردّد او تفكير اجابت ليلى جعجع عبدالله على اسئلة الاعلاميين فقالت: ان اطفالنا هم سبب حياتنا. ان هدفنا في الحياة هو تربيتهم وفق التعاليم الربانية الصحيحة وتعليمهم على محبة الآخرين، واتاحة الفرصة لهم والتأثير عليهم ليصبحوا شباناً وشابات صالحين.
كيف ستصلح حياتنا بعد اليوم؟ اين وكيف نبدأ باستعادة إلتقاط القطع (المبعثرة) حتى نتمكن من ان نكون اولياء صالحين لابنائنا الثلاثة المتبقين على قيد الحياة؟
اعتقد ان المغفرة هي البداية.
نسامح السائق الذي قتل اطفالنا الابرياء. ان ما قام به سيحاكم عليهم امام المحكمة الارضية والمحكمة السماوية. قررنا في اعماق قلوبنا ان نسامحه، من اجلنا ومن اجل اطفالنا، وخاصة من اجل المسيح، لأن ايماننا بيسوع المسيح هو اساس عائلتنا، وسيستمر. وهذا سيساعدنا خلال هذا الوقت العصيب.
وتابعت ليلى قائلة: كل يوم يمر يقربنا اكثر لنتحد فيه مع ملائكتنا. سوف نتطلع نحو هذه اللحظة. لن ننظر الى الوراء، الى آلام الماضي.
اطفالي هم الآن في مكان افضل. سلام الله، بالمسيح يكون معنا جميعاً.
- النظرة الايمانية
عندما سئل السيد المسيح لماذا يولد الانسان اعمى او اصم او مشلول؟ ألعله ارتكبها والداه ام لخطيئة فعلها هو؟ اجاب يسوع، بل ليظهر مجد الله.
هكذا ظهر مجد الله مع مقتل الاطفال الثلاثة… لنستعد الاحداث معاً من منطلق ايماني وننظر الى رمزية ما حدث.
قتل الاطفال ليل السبت، اي ليلة تقدمة المسيح الطفل الى الهيكل. بالمناسبة اعلن سمعان الشيخ: «اطلق عبدك يا رب، فان عيناي رأت مجدك. ثم التفت الى العذراء مريم قائلاً ان سيفاً سيغرض في قلبك.»
في ذكرى هذه المناسبة طلب الرب وديعته من عائلة عبد الله، وغرس سيفاً من الألم سيدمي قلوب العائلة لسنوات طويلة، لكن ليظهر مجد ومحبة الله.
– الظاهرة الاخرى اللافتة هي حالة السلام الداخلي، رغم قساوة الحادثة واللجوء الى الصلاة الجماعية في موقع الحادث.
– ساعة وقوع الحادث، فيما اجهش الجميع بالبكاء والصراخ كانت والدة الاطفال تجوب عليهم بصمت وبيدها المسبحة تصلي لخلاصهم.
فالصلاة بالمفهوم الايماني هي اشد سلاح واقواه في ساعات المحن، وافضلهم خاصة ان كانت جزءاً من الممارسات اليومية للعائلة.
ويتميّز المسيحيون المشرقيون بشكل عام والموارنة بنوع خاص بتلاوة المسبحة الوردية وبطلب شفاعة العذراء مريم، ام الله وام الكنيسة وشفيعة العائلات.
يومياً تجمع الموارنة، من الشبيبة والاهل والاصدقاء في موقع الحادث لتلاوة المسبحة على راحة انفس الاطفال ودعماً للأهالي خلال هذه المأساة، رغم هطول المطر وتقلبات الطقس. وهذا ليس جديداً.
فخلال التشنجات قبل وبعد التصويت على مشروع قانون زواج المثليين، نزل الشباب الماروني الى شوارع نيو تاون ومناطق اخرى لتلاوة المسبحة الوردية من اجل حماية العائلة… كذلك فعلوا عندما ناقش برلمان الولاية مشروع قانون الاجهاض، ايماناً منهم بأهمية الصلاة القادرة على اجتراح العجائب ومواجهة المحن، مهما عظمت .
< المشهد الثالث الملفت هو صفاء الجو وتوقف المطر وظهور الشمس بعد ايام من العواصف والفيضانات، وبعد ان توقع مكتب الارصاد الجوية وصول اعصار «داميان» المدمر الذي تبلغ سرعته 230 كلم في الساعة، ويتسبّب بأمطار غزيرة وفيضانات.
لكن وبقوة عجيبة هدأت الرياح وتوقف المطر. وانقشعت الغيوم وتحوّل يوم مراسم دفن الأخوة الثلاثة الى يوم مشمس. وكأن العناية الإلهية استجابت لصلوات المؤمنين، او ان الملائكة الصغار توسطوا الى العناية الالهية، لكي يودع والديهم واقاربهم الجسد الفاني المنتقل من عالم الشقاء الى الحياة الممجدة مع الله.
وفي اليوم التالي، تساقط المطر الغزير مجدداً في سيدني. ربما هي صدفة، لكنها رمزية في توقيتها.
- المحبة والمغفرة
المقربون من عائلة عبدالله تحدثوا تكراراً عن صفاء هذه العائلة المارونية اللبنانية والمزايا التي تتحلى بها. من اعمال الاحسان والمساعدات الانسانية والمداومة على الصلاة والالتزام بوصايا الله والكنيسة.
فان احدثت العائلة صدمة ايجابية في نفوس من استمعوا الى ليلى وهي تردد انها تغفر لمن قبل اولادها يجهلون عمق الإيمان والتراث المسيحي المتأصل، خاصة لدى المسيحيين المشرقيين.
ألم يذكر المسيح في متى 6/14-15 انه «ان غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم ابوكم السماوي. وان لم تغفروا للناس زلاتهم، لا يغفر لكم ابوكم زلاتكم«؟ وفي لوقا 6:37 يكرّر المسيح وصيته «اغفروا يغفر لكم». و«هذه هي وصيتي ان تحبوا بعضكم بعضاً كما احببتكم» (يوحنا 15:12).
ألم يردّد السيد المسيح على الصليب:
يا ابتاه اغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفضلون. (لوقا 23:34).
فالعائلة، كالعديد من العائلات المسيحية الملتزمة تدرك اهمية ما ورد في رسالة يوحنا 4:20-21: «ان قال احد انني احب الله وابغض اخاه فهو كاذب. لأن من لا يحب أخاه الذي يراه كيف يقدر ان يحب الله الذي لم يره؟
وان كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي.. وصية جديدة اعطيكم ان تحبوا بعضكم بعضاً كما انا احببتكم».
لأن المحبة الصادقة تتأنى وترفق، المحبة لا تحسد، المحبة لا تفاخر، ولا تنتفخ، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وتصبر على كل شيء . المحبة لا تسقط ابداً. كورنتس 13: 4-8).
ومن لديه محبة في قلبه هو انسان منتصر. «لأن الله لم يعطنا روح الفشل، بل روح القوة.» المحبة لا تسقط ابداً. اما النبوءات فستبطل والألسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل، كما ذكر القديس بولس في كورانتس 13:8.
لقد ادركت عائلة عبدالله انه يجب عليها ان تفتخر حتى في الضيقات، لأن الضيق ينشئ صبراً، والصبر تزكية، والتزكية رجاء، والرجاء لا يخزي. لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا. (رومية 5:3-5).
- الاتكال على العناية الالهية
ان المأساة التي تعيشها عائلة عبدالله تختلف ليس في حجمها بل في كيفية التعامل معها.
لقد حولت العائلة الحزن الى امل، والمعاناة الى رجاء، والكراهية الى محبة، والثأر الى مغفرة ، والدمع الى صلاة، واليأس الى اتكال على العذراء مريم وعلى العناية الالهية. لهذا تحولت مأساة الاطفال الاربعة الى صرخة مدوية في مجتمع يفقد هويته وصحة انتمائه، بعد ان ضربت به التيارات الملحدة، وتحكم به اناس عبثيون يسعون الى ضرب المفاهيم الايمانية الصحيحة وتدمير العائلة.
لقد ايقظت هذه المأساة وكيفية تفاعل عائلة عبدالله والجالية المارونية معها الضمائر النائمة التي اصبحت تخجل من قول الحق والالتزام بالحقيقة. ان ما جرى هو دعوة للجميع لمراجعة اولوياتهم والعودة الى الثوابت، وليس للعيش فقط حسب الجسد، لئلاً نموت بالجسد.
- الأمل بالإيمان
كلي إيمان ان قوى الشر التي تسعى الى هدم المجتمع ومحاصرة الموارنة، نظراً لما يتعرضون له من حملات مغرضة وزعزعة ايمانهم، على امل ابعاد شبيبتهم عن ثالوثهم المقدس: الإيمان بالله الخالق، والالتزام برسالة المسيح المخلص والاحتذاء بالعذراء مريم، ويقابل هذا الثالوث، ثالوث آخر هو ان لبنان ارض الميعاد لديهم، هو «وقف الله على الارض»، وموطن قديسيه وحماته، من مار مارون الذي احتفلنا بعيده منذ ايام، وصولاً الى مار شربل والقديسة رفقا والحرديني وكل الأباء والاجداد القديسين، اضافة الى التراث الإيماني العميق، وقد عبرت عائلة عبدالله عن هذا الإرث وهذا الثالوث في كيفية تعاملها مع خسارة ابنائها الثلاثة. معاً تحملوا الألم برجاء، معاً صلوا كجماعة مؤمنة، ومعاً غفروا للجاني، ومعاً اعطوا استرالياوالعالم بأسره امثولة في صدق الإيمان وفي اهمية الصلاة والمغفرة. لأن من كان مع الله لا احد قادر ان يغلبه.
فالانسان المؤمن، لا يخجل من التعبير عن ايمانه انه يجاهر به بتواضع، لأن الإيمان هو مصدر حياة وقوة.
ألم يعلمنا السيد المسيح انه النور والحق والحياة؟ فمن يمشي في النور لن يسقط في هوة، ومن يتمسك بالحق، فالحق يحرره، ومن يمتلك سر الحياة، لا تقتله شدة.
لذا اكدت عائلة عبدالله ان اطفالها هم الآن في مكان افضل، وتعيش يوماً بعد يوم على امل اللقاء بهم في حضرة الآب السماوي. ولذا غفرت العائلة للقاتل، لكي تتمكن من متابعة مسيرتها الإيمانية. فالعائلة حفظت وصية الله وتعمل بموجبها.. انها مثال صالح للجميع.
بكل تواضع واحترام للآخرين، لقد جعلتني عائلة عبدالله افاخر كوني ماروني، اسعى جاهداً للحفاظ على الأمانة. فأنا اشعر ، مرة اخرى وبكل تواضع اننا الخمير الجيد الذي سيخمر عجين المجتمع الاسترالي، مهما اشتدت المحن.