بقلم بيار سمعان

لم ينل اي زعيم سياسي في لبنان هذا الكم الهائل من الشتائم في الشارع. كما ناله وزير الخارجية جبران باسيل. فقد وجهت اليه الانتقادات اللاذعة بشكل لافت، وجرى تأليف الأناشيد والاغاني و«الردات» الشعبية على اسمه، مما لفت انظار وسائل الاعلام الدولية، فنشرت صورة على غلافاتها الخارجية والمرفقة بالتعابير النارية التي رددها المتظاهرون في مسيراتهم واعتصامات في الساحات العامة.

باسيل، وزير الخارجية المناهض ظاهرياً لوجود اللاجئين، والساعي لاعادة النظام السوري الصديق والحليف الى احضان الجامعة العربية، هو ايضاً صاحب اكثر التصريحات «العنصرية».

انه صهر رئيس الجمهورية ميشال عون والطامح الاول لخلافته في منصب الرئاسة، لكي يستمر ما يسميه هو واتباعه «بالعهد القوي».

شغل باسيل منصب وزير الاتصالات بين عامي 2008 و 2009، ثم وزير الطاقة خلال السنوات الممتدة بين 2009 و2014، ووعد اللبنانيين بتوفير الطاقة الكهربائية 24/24، لتبقى وعوده دون تنفيذ، رغم تخصيص الحكومات المتعاقبة حوالي 40 مليار دولار لقطاع الكهرباء. ويبرر باسيل فشله بالعراقيل التي يتسبّب بها خصومه.

تصريحات جبران باسيل النافرة والتهديدات المتكررة التي وجهها الى خصومه، لم تثر فقط ردود فعل المكونات السياسية، بل جعلت منه، باعتقادي، الإسفين الاول الذي دقّ في هيكل العهد القوي. وسأستعرض التفاصيل.

< جبران باسيل يطلق اول رصاصة في رأس العهد.

بعد مرور عامين من التعطيل وانقضاء سنتين ولبنان بدون رئيس للجمهورية، جرى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للبلاد بعد ان تفاهمت القوات اللبنانية مع العماد عون والتيار الوطني الحر، ووقع الطرفان على وثيقة تفاهم «معراب».

ويقال ان سمير جعجع الذي صدم قاعدته الشعبية عندما اتخذ قرار دعم الجنرال، عمل جاهداً على اقناع الرئيس سعد الحريري لتأييد العماد عون. لأنه لا يحسن ان تبقى البلاد في حالة الانقسام العمودي وبلا رأس، الأمر الذي يسمح لحزب الله بالتمادي باحكام سيطرته على البلاد في ظل غياب رأس مسؤول واستمرار تعطيل مؤسسات الدولة.

ونتيجة للتنازلات المشروطة وصل العماد عون الى الرئاسة، وبدأ «العهد القوي» الذي امل اللبنانيون الكثير الكثير منه، خاصة من جهة استعادة هيبة الدولة، وبسط سلطتها على الاراضي اللبنانية ومكافحة الفساد وفرض القانون.

ونظراً للتفاهمات المسبقة تمنى الجميع ان يصبح رئيس البلاد «أباً للجميع» وان يتخلى عن التزاماته السابقة وتحالفاته الثنائية مع حزب الله وان يرتقي الى سدة القائد المسؤول، وحامي الدستور. وان يترفع عن الحسابات الضيقة ، وان يصبح رئيساً لجميع اللبنانيين، دون استثناءات او ازدواجية في الولاءات والمعايير.

< الوريث المتسرّع

الوزير جبران باسيل، تصرف منذ اللحظات الاولى «للعهد القوي» وكأنه الحاكم في قصر بعبدا. واصبح مقتنعاً ان تحالف التيار مع حزب الله يسمح له بالتخلي عن التفاهات السابقة وان دعم حزب الله لوصوله الى سدة الرئاسة بقوة السلاح، وضمان الرضى السوري -الايراني، يؤهله لإلغاء المكونات اللبنانية الاخرى، من قوات ومردة وحزب الكتائب وحتى امل، الحليف الاستراتيجي لحزب الله والحزب الاشتراكي. وهذا ما دفعه للقيام بجولاته المكوكية التي لم تخل من التحدي.

واحس اللبنانيون، من رجال سياسة ومحللين ان الوزير باسيل الطموح، يعتمد سياسة الإلغاء سبيلاً لتحقيق طموحاته السياسسية. وعوض الوفاء لمن دعموا وصول العماد عون، اعتمد جبران سياسة الاقصاء وقطع الأيادي ومحاصرة خصومه، خاصة من يشكلون خطراً على وصوله الى موقع الرئاسة الاولى.فالمنطق السليم يتطلب من اهل الحكم والمعنيين ان يضحوا بمصالحهم الضيقة ويتنازلوا عن بعض المكاسب، اذا اضطر الأمر، من اجل حماية وتدعيم العهد وتسهيل مهامه. اما جبران باسيل، فاعتمد سياسة مغايرة. وفي حين اظهر الآخرون غيرة على انجاح العهد، تصرف جبران باسيل من خلفية ان رئيس البلاد هو انسان كهل. وقد يستقيل من الحكم او يراد منه ان يفعل ذلك في الوقت المناسب، لدواع صحية، كما بدا من الكلمات المصورة والرسائل المتلفزة للرئيس عون. لذا اهتم باسيل بخلق الاجواء الملائمة لخلافة عون، حتى ولو كلف ذلك دمار العهد والتعجيل بالقضاء عليه. وكشف اجتماع باسيل والسيد حسن نصرالله ملامح هذه الخطة.

لذا يعتقد كثيرون، وانا منهم، ان جبران باسيل هو اول من وجه رصاصات قاتلة الى «العهد القوي» لضمان وراثته، وهو كبروتوس إبن يوليوس بالتبني، وجه طعنة للامبراطور الروماني لوراثته.

لقد اعتقد باسيل وحزب الله ان احتضان سعد الحريري، بعد استقالته من السعودية والإساءة اليه، سوف تكسب جبران باسيل دعم الفريق السني له. لكن باسيل تناسى ان الحريري المرتبط بسياسات وقرارات دولية يخشى ايضاً خسارة القاعدة السنية، سر وجوده. لذا اصيب فريق حزب الله والتيار بصدمة كبرى، عندما اقدم سعد الحريري على اعلان استقالة حكومته، بعد مرور اسابيع على الانتفاضة الشعبية، رغم تهديدات  وتحذيرات سيد المقاومة.

وكان تكتل الجمهورية القوية قد اعلن استقالة وزرائه من الحكومة، بعدما أيقن سمير جعجع ان ما طالب به خلال «اجتماع بعبدا الإصلاحي» بضرورة تأليف حكومة تكنوقراط قادرة على انقاذ البلاد قبل الانهيار الكبير، اصبح مطلباً شعبياً تبناه «الثوار» الذين رفضوا الخروج من الساحات. رغم كل محاولات التهديد والترهيب والاعتداءات والاتهام بالعمالة للسفارات.. كل هذه الادعاءات سقطت الواحدة تلو الأخرى، وتمكن الشعب المنتفض من فرط الحكومة، وفرض نفسه رقماً صعباً في المعادلة السياسية في لبنان، لدرجة انها اسقطت كل المحرمات وضربت عقر دار المحميات السياسية والامارات التي خلفتها الهيمنة السورية. كما دفعت الانتفاضة نواباً للانسحاب من تكتل لبنان القوي، والى انشقاق مناهضين من كوادر «التيار الوطني الحر»، ممن يعتبرون ان الوزير باسيل يسيء بسلوكه السياسي للعهد، وانه لا يمتلك مؤهلات تجعله قائداً ناجحاً للحزب منذ تنحي العماد عون من منصبه عام 2015، وان عوامل التوريث السياسي تتناقض مع روحية التيار الديمقراطية.

< النفس الطويل لدى الشعب اللبناني

الأخطاء العديدة التي ارتكبها باسيل باسم العهد تحقيقاً لاهدافه الوصولية، بالاضافة الى تكريس المنظومة الفاسدة وتعنت السلطة والتقصير في معالجة الملفات الكثيرة، اوصلت الشعب اللبناني الى حالة اليأس التي انفجرت اعتصامات لا لون سياسي او مذهبي او مناطقي لها، بعد ان وحد الجوع والفقر والبطالة والاستهتار بمصالح وراحة الناس كل المواطنين في لبنان.

وتعهد اللبنانيون «الجياع» على عدم  التراجع حتى تحقيق المطالب والتخلص من المنظومة  الفاسدة الحاكمة التي تنهب المال العام وتتقاسمه فيما بينها باسم المحاصصة. فالتهويل والترهيب والعنف والدمار عجز عن ابعاد المتظاهرين واخراجهم من الشوارع، بعد ان انكسرت عقد الخوف من مواجهة السلطة وتركيبتها الفاسدة.

بالمقابل تستمر هذه السلطة التي وصلت الى حائط مسدود، بعد ان اصبحت عاجزة عن اجراء استشارات  نيابية  او تأليف حكومة قادرة على التعامل بإيجابية مع الازمة الاقتصادية والثورة الشعبية والاستجابة لمطالب المجتمع الدولي لاجراء اصلاحات جذرية ترضي مطالب الناس والدول المانحة.

فالمنظومة الحاكمة بكل مكوناتها هي اليوم في مأزق لا تحسد عليه. وبدأت تتبادل  الاتهامات فيما بينها، حتى وصلت الى الجسم القضائي المسيّس بامتياز.

لذا يسعى باسيل الى الاستفادة الآن من الزخم الشعبي، مدعياً ان مطالب الناس هي مطالب التيار الوطني الاصلاحية. لكن الناس الذين استهدفوه في بداية الحراك، يستخفون اليوم بإدعاءاته الاخيرة وتكويعاته نحو الشارع، بعد ان شعر ان الولايات المتحدة قد تستهدفه شخصياً بعقوباتها، بعد ان استهدفت احد المقربين منه، طوني صعب.

فالانتفاضة الشعبية، على عكس ما يتمناه جبران باسيل، قد حققت العديد من الاهداف، واهمها اسقاط  «العهد» سياسيا وشعبيا ومعنوياً. كما اثبتت ان شراء الوقت وانتظار تعب  الناس وبث البلبلة واللعب على الوتر الطائفي والمذهبي لم تساعد على انهاء الحراك الشعبي، بل زادته متانة وقناعة وتمسكاً بمطالبه.

< الحريري : شر لا بد منه!!

يرى اهل الحكم ان الرئيس سعد الحريري  لم يكن وفياً للعهد، ووجه طعنه اليه عندما اعلن استقالة حكومته دون البحث عن بدائل او استشارة المسؤولين في السلطة.

وبعد فشل جميع المحاولات السابقة لإيجاد رئيس حكومة بديل، واجه الحكم مخاطر مقاطعة المكون السني له. لذا يعاد الآن طرح اسم الرئيس الحريري لتأليف حكومة جديدة، يختلف حول شكلها وبرنامجها كل عناصر المنظومة السياسية.

فريق العهد الذي اصيب بخيبة امل من مواقف الحريري السابقة يريد جر الأخير الى الحكومة ليوجه له ضربة قاضية تخرجه من المعادلة السياسية. لكن حزب الله لا يزال يعتقد ان سعد الحريري هو الأفضل في هذه المرحلة، وهو قادر على مساعدة العهد في الحفاظ على الاستقرار الداخلي وعلى التركيبة السياسية التي بناها الحزب والتي توفر له الحماية والدعم. وسعد الحريري قادر على مخاطبة الاوروبيين والاميركيين والعالم العربي كزعيم سني له مكانته وقاعدته الشعبية واتصالاته الدولية.

فعودة الحريري الى الحكم ستؤدي الى عزل خصوم العهد من المكون المسيحي من قوات وكتائب ومردة، وهكذا تبقى العلاقة السنية الشيعية مصانه في هذه الظروف العصيبة، كما تريح الوزير باسيل من استبعاد خصومه المسيحيين.

وفيما يفكر العهد والوزير باسيل بطريقة محلية بهدف اعادة الامساك بالتركيبة السياسية، يفكر حزب الله بطريقة اقليمية ودولية اذ يرغب ان تبقى الحزب يتمتع بنوع من الحماية الداخلية.

بدوره الرئيس سعد الحريري، هو على قناعة ان حزب الله يعيش في مأزق كبير. لذا طلب الحريري من حزب الله فترة ست اشهر «خالية من جبران باسيل» ، لكي يحاول انقاذ الوضع الاقتصادي ويمنع انهيار البلد.

لكن حزب الله لن يسمح بحكومة من هذا النوع، لأنها ستنعكس سلباً على صورته، ليس فقط في لبنان، بل في العالم العربي بأكمله، خاصة في سوريا والعراق وايران. لأن حكومة التكنوقراط تعني ان حزب الله اسقط ورقة لبنان وحكومته من يده ويد ايران، اذ يعتبر الاثنان ان هذه الورقة تستخدم للتفاوض مع الولايات المتحدة ومع دول الخليج العربي.

< قمع المتظاهرين

حيال هذا الواقع المتأزم، يرى انصار العهد ان اهون الشرور هو الانقضاض على الانتفاضة وارغام المتظاهرين على الخروج من الشارع، بعد ان اصبح الشعب هو مصدر السلطة الوحيد، ونجح في فرض شروطه على المنظومة السياسية. لذا بدأنا نشهد مؤخراً ارتفاعاً ملحوظاً في مستوى العنف ضد المتظاهرين، وعلى يد القوى الأمنية المدعومة بفريق من المندسين، يأتمرون بأوامر حلفاء العهد والمخابرات المحلية. طابور خامس من المندسين يفتعلون المشاكل لخلق صدامات مع القوى الأمنية تبرر  السلوك العدائي ضد المتظاهرين، وتشوّه  صورتهم السلمية والراقية والتي حافظوا عليها حتى اليوم.

ولا يستبعد البعض ان يكون الهدف من الاعتداء على المتظاهرين هو دفع بعض القوى المسيحية المعارضة من قوات وكتائب الى مواجهة القوى الأمنية، واعادة استغلال صور قديمة لا تزال عالقة في الذهن الجماعي. منذ حرب الإلغاء. هذه الفرضية ليست مستبعدة، بعد تكرار الاعتداءات على بيت الكتائب في الصيفي، ومواجهة المتظاهرين والاعتداء غير المبرر عليهم في المناطق ذات الأغلبية المسيحية ذو الميول السياسية المناهضة للحكم.

< باسيل وحزب الله وأمل

فيما يتحلى حزب الله بالمقاربة العقلانية في معالجة الأمور، ويتميز رئيس مجلس النواب بالمقدرة على تدوير الزوايا. يأخذ الاثنان على جبران باسيل انه اخطأ مراراً في معالجة القضايا الشائكة، ولم يكن مصيباً في المعالجات اليومية للاحداث. فباسيل الذي يوفر كما فعل العهد الغطاء السياسي لحزب الله ولشريكه الشيعي (أمل) بفعل المصالح المشتركة، ارتكب خطأ فادحاً، فأصاب العهد اصابة مباشرة ادمت حلفاءه بشظاياها.

لبنان الذي يعيش اليوم عزلة سياسية ومآزقاً اقتصادياً، وعجزاً في تأليف حكومة انقاذ. يسير دون شك نحو المزيد من الانهيار في تركيبته السياسية واوضاعه الامنية والمعيشية قد تؤدي الى وضع البلاد تحت البند السابع.

اقل ما يقال الآن ان غياب رجالات الدولة امثال ريمون اده وكميل شمعون وبيار  الجميل الأب والرئيس سليمان فرنجيه، والرئيس الحص ورياض الصلح وغيرهم، جعلت صغار القوم يتحكمون بمصير البلاد.

غلطة الشاطر بألف غلطة، لكن اغلاط الصغار قد تكون مميتة !!!

ان نجاح الثورة سيجعل لبنان بلداً يحتذى به في المنطقة ويصبح الدولة الأقوى والرقم الصعب في الشرق الاوسط.

بالانتظار سيبقى جبران باسيل «الحاكم المعارض» و«الحاكم المعطل» والمسؤول الذي يوجه انتقاداته في كل الاتجاهات حفاظاً على مواقع ومكتسبات يُسيء هو نفسه حمايتها.

يتناسى جبران باسيل ان التعطيل يطال »العهد» اولاً بأول، وان سياسة «أنا او لا احد» سوف تقضي على ما تبقى من «العهد القوي».

ربما لا يزال باسيل يأمل انه «الوريث المضمون» حتى ولو كلف ذلك خراب البلد!!.

pierre@eltelegraph.com