لم يعد طبيعياً حجم الفساد المستشري والمقنن داخل المنظومة السياسية الحاكمة في لبنان منذ عقود، لدرجة أن الإنسان يعجز أن يجد ملفاً أو مشروعاً واحداً لا يخلو من الفساد وعمليات نهب المال العام.
ولقد هال الرأي العام اللبناني والدولي مدى انتشار الفساد في لبنان، خاصة خلال الأشهر الماضية، عندما بدأ ناشطون ووسائل إعلام بنشر تفاصيل الملفات الفاسدة، لدرجة أنه بدا من النادر وجود وزارة أو إدارة تعتمد الشفافية والموضوعية والمصلحة العامة قاعدة أساسية لعملها.
البترول ثروة لبنان:
على هذه الخلفية المقلقة، يتساءل المواطنون إذا كانت الثروة النفطية الموعودة هي مرشحة لتصبح نقطة انطلاق لمعالجة إشكاليات الوطن من ديون وأوضاع اقتصادية متردية، وخلق فرص عمل جديدة ونقل الوطن من بلد استهلاكي إلى بلد إنتاجي، يعتمد إلى جانب السياحة والزراعة والقطاع المصرفي والنقل العام على إنتاج الغاز والنفط، أم أن قطاع الطاقة النفطية الجديدة هو مرشح ليصبح “لعنة“ تقضي على ما تبقى من الآمال لدى اللبنانيين.
التجارب التي عاشها لبنان، انطلاقاً من معالجة الخلافات مع إسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية، والغموض والشبهات التي تحوم حول التشريعات التنظيمية لعمليات استخراج النفط.. كل هذا يجعل لبنان بلداً لا يقل فساداً عما نشاهده في نيجيريا وأنغولا وفنزويلا وغيرها من البلدان الأكثر تخلفاً.
سياسيون فاسدون ينهبون النفط:
فيما يروج أهل الحكم أن التنقيب عن الغاز سيبدأ عام 2020، فإن شركة توتال الفرنسية تؤكد أن استخراج النفط من المياه الإقليمية اللبنانية لن يبدأ أعمال الضخ قبل عام 2029.
وليس واضحاً إن كان سيتم نقل الغاز الى الشاطئ اللبناني، او يتم تصديره مباشرة عبر مسار آخر. يبقى التركيز الأساسي هو على ما سيحدث للإيرادات والمداخيل ، ودراسة مخاطر الفساد في قطاع الطاقة.
لا شك أن زيادة الوعي للقضايا المعقدة تساعد على وضع التشريعات الملائمة. لكن يجب بذل جهود إضافية لتحقيق أكبر قدر من الشفافية والمساءلة، ووضع حد لأعمال الفساد، وأعتماد سياسة اقتصادية وتشريعية تؤكد على النويا الحسنة وتضمن الالتزام بها. وهذه ليست مسألة صغيرة، مع وجود نظام قائم على الفساد والمحاصصة.
عامل الفساد:
لا يوجد أي فرد أو شركة أو مسؤول متخصص لا يبدي اهتماماً بموضوع الطاقة النفطية في لبنان، على أمل أن يساعد استخراج الغاز على تحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
الخبير النفطي اللبناني نقولا سركيس، قام مؤخراً بتحميل شريط فيديوعلى “يوتيوب“، يكشف فيه الفساد الفظيع المتداخل في مجال البترول في لبنان، يقول سركيس أنه لم يسبق له مثيل في أي بلد آخر بالمقارنة مع ما اختبره خلال عمله طوال 40 عاماً.
عمل نقولا سركيس كمستشار للنفط لسنوات طويلة. وهو يرى اليوم، في ضوء الانتفاضة في لبنان والتركيز على فضح ومكافحة الفساد، أن يشارك المواطنبن برؤيتهم.
ويورد السيد سركيس معلومات دقيقة لما يجري وراء الكواليس في خطة نفط لبنان. ويمكن إيجاز أفكاره على الشكل التالي:
– يوجد العديد من الخبراء اللبنانيين المتخصصين في قطاع البترول، يعملون مع شركات كبرى في العالم العربي ودول أخرى منتجة للنفط. ورغم وفرة هؤلاء، لم تعمد الإدارة اللبنانية الى الاستعانة بهم.
– معظم أعضاء إدارة شؤون النفط الستة لا علاقة لهم بالبترول، لكن جرى تعيينهم على أساس طائفي، وهم يمثلون ست طوائف رئيسية في البلاد وجرى اختيارهم على هذا الأساس.
– السبب الآخر هو أن تعيين هؤلاء جاء على يد وزير الطاقة آنذاك (2010).
– قانون التنقيب عن النفط اللبناني واستثمار الموارد البترولية في المياه البحرية كل البلدان المنتجة للنفط لديها شركات وطنية للبترول، باستثناء لبنان وبعض جزر المحيط الهادي.
– اعتماد قانون المشاركة مع الشركات المنقبة عن البترول بنسبة مئوية تصل الى 40 % للدولة. هذا القانون هو مطبق في معظم الدول المنتجة للنفط. وهذا ما كان يفترض أن يطبق في لبنان. لكن ما حصل هو عكس ذلك تماماً.
– بعد صدور القانون البترولي عام 2010، بدأ العمل على المراسيم التطبيقية. ما حصل في لبنان ان المراسيم التطبيقية كانت مفصلة للغاية، خاصة ما يتعلق بنموذج الاتفاقيات مع الشركات الأجنبية.
قدم نموذج الاتفاقية لوزارة تمام سلام الذي رفض القبول به لأنه يتناقض مع القانون.
المادة 5 من مشروع القانون تقول: لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الأولى – هذه المادة تتناقض مع القانون الذي ينص على مشاركة الدولة اللبنانية بنسبة 40% على أقل تعديل. وهذا تزوير موصوف للقانون.
الطريف أن الوزارة التي جاءت بعد استقالة حكومة تمام سلام، أقرت هذه البنود خلال أول اجتماع لها. وصدر المرسوم 43/2017 إضافة الى ذلك حدثت تجاوزات أخرى لا يتصورها العقل، حتى في البلدان الأكثر فساداً.
والطريف أن كل التجاوزات أقرت بسرية كاملة، ولم يضطلع النواب على تفاصيل مشروع القانون الذي أقروه أنفسهم.
وعلى أساس هذا المرسوم 43/2017 تم الاتفاق مع ثلاث شركات فرنسية وإيطالية وروسية للتنقيب عن الفط واستخراجه.
لكن لا بد من التنويه أن إقرار مشروع القانون يضع الأساس لمخالفة قانون الاتفاقيات ويمهد الطريق كي تأتي مصالح خاصة لتضع يدها على البترول.
هذه الثروة التي يعول عليها جميع اللبنانيين للنهوض من الديون والكوارث الاقتصادية التي تحيط بلبنان والانهيار الذي ينجر إليه النظام والشعب.
فقد أقرت وزارة الطاقة والحكومة تأهيل شركات (وهمية) يحق لها طلب حق التنقيب عن الغاز في لبنان بالتعاون مع شركات اجنبية. وميزت الحكومة بين شركات مشغلة وشركات غير مشغلة. فالشركات المشغلة “Operator” بمقدورها أن تقوم فعلياً بعمليات التنقيب عن البترول واستخراجه وإنتاجه. ويوجد في العالم حوالي 15 شركة قادرة على القيام بذلك. مثل شركات توتال وشل وغيرها.
يوجد في لبنان اليوم 53 شركة أجنبية مسجلة ولا يوجد شركة وطنية واحدة، ولم تنشيء الدولة اللبنانية شركة وطنية لتهتم بإنتاج النفط وتوزيعه، وتمثل الطرف اللبناني في هذه العملية الضخمة.
وأسوأ من ذلك هو وجود شركات وهمية ضمن الشركات المسجلة في لبنان، تم تسجيلها كشركات بترولية، خلال الأسابيع التي سبقت عملية التأهيل. منها، على سبيل المثال شركة أسسها رئيس غرفة التجارة والصناعة في بيروت وسجلها في هونغ كونغ وتدعى APEX , برأسمال 1300 دولار أميركي. قدمت هذه الشركة طلب تأهيل مسبق لإدارة البترول، قُبل طلبها.
ولا يدرك أحد كيف قبل أعضاء إدارة هيئة البترول هذا الطلب لشركة وهمية، ليس لديها مكاتب أو رقم هاتف وعنوان ثابت ومعترف به, ورأسمالها 1300 دولار لا غير.
نفس الرواية تنطبق على شركة أخرى أسست في بيروت وليس لها مكتب مسجلة باسم إعلامي معروف في لبنان.
فالمطلوب من وراء ذلك هو أن يضع البعض يدهم على القسم الأكبر من البترول، بعد أن رأوا في هذه الثروات الفرصة الذهبية لتكديس، ليس الملايين، ولكن مليارات من الدولارات.
كيف يتم ذلك؟
إن المادة 6 من دفتر الشروط تقول حرفياً: “لا تقبل طلبات الحصول على حقوق تنقيب وإنتاج البترول في لبنان إلا إذا كانت الشركة المشغلة متعاونة مع شركة تجارية غير مندمجة. أي أن تكون الشركة الكبرى هي المشغلة“، ومعها على الأقل شركتان غير مشغلة. يكون نصيب الشركة المشغلة 65% ونصيب الشركة غير المشغلة هو 10% على الأقل. هذا يعني بشكل آخر أن تأتي الشركات التجارية غير المندمجة، معها شركة كبرى مشغلة وتطالب بالتنقيب عن البترول من الحكومة اللبنانية. قد تسمح الحكومة شرط أن يكون هناك شركتين غير مشغلتين. وهذا ما يرغم الشركات الكبرى على الرضوخ للأمر الواقع، للحصول على حق التنقيب.
شركات صغيرة أو وهمية تمثل بالحقيقة مصالح رجال السياسة النافذين في لبنان.
هذه التدابير تعني أن المسؤولين السياسيين يتنازلون تلقائياً عما يسمى ب “تقاسم الأرباح“ بين لبنان والشركات “المشغلة“ الكبرى، لأن الغاز والنفط الذي يمكن استخراجه هو ملك للدولة بالأساس، وهذا ما ينص عليه القانون والأعراف الدولية.
وعندما تتخلى الدولة اللبنانية بطريقة غير مباشرة عن شراكتها وملكيتها للنفط، تصبح عندئذ، كما كان سائداً في السابق، الشركات هي المالك الفعلي للبترول. فالقبول بالشركة العاملة والمنقبة بالتعاون مع شركة غير ضامنة أو مشغلة، يعني التخلي عن حقوق ملكية النفط من قبل الدولة. وتصبح ملكيته لهذه الشركات بدل ان تكون ملكاً للدولة.
وهكذا، وبفعل هذه التشريعات خسرت الدولة اللبنانية حقوق الملكية على كل البترول في المياه الإقليمية اللبنانية. والأسوأ من ذلك هو ادراج بند إضافي يسمح لمراقب من قبل الدولة حضور بعض الاجتماعات مع الشركات المسؤولة عن إنتاج البترول. مراقب لا صلاحيات له، يكتفي برفع تقرير لوزير الطاقة.
إن هذه القوانين هي مجرد استهتار بحقوق الدولة وبحقوق اللبنانيين، لصالح أقلية من رجال السياسية والمستفيدين من حاشيتهم.
إن ما تم إنجازه في لبنان بالنسبة لقطاع البترول، هو عمل إجرامي، وعملية نهب «مشرّع» لخيرات البلد المستقبلية. وإن تصرفات المسؤولين اللبنانيين، إن كانوا في الحكومة أو الوزارات المعنية، هي ليست تصرفات مسؤولة، بل تهدف إلى الإثراء غير المشروع.
إن ما يجري في قطاع البترول هو إجرام مشروع بحق اللبنانيين. فالنخب السياسية هي الوحيدة التي تستفيد من صناعة البترول في لبنان، في حال لم يتم إصلاح ما ارتكبته أيادي تجار الهيكل، وأعيدت ملكية النفط إلى الشعب اللبناني.
وإلا فإن بضعة سياسيين ورجال أعمال سيضعون أيديهم على لبنان.
ربما هذا ما دفع جبران باسيل للقول: “سوف أنسيكم بشير الجميل؟؟“.
بشير الذي قدمت له السعودية شيكاً مفتوحاً ليضع المبلغ الذي يريد، فكتب 10452 (وهي مساحة لبنان)، اما باسيل وما يمثل في المنظومة الفاسدة، يسعى لاستغلال، ليس فقط 10452 بل المياه الاقليمية ايضاً.
حمى الله لبنان من تجار الهيكل، وما اكثرهم في عصر الفساد.
pierre@eltelegraph.com