ليل أول أمس، نزل متظاهرون معارضون، قيل أنهم من حركة أمل وحزب الله إلى جسر “الرينغ” لمواجهة الحراك الشعبي، مما دفع القوى الأمنية والجيش إلى الفصل بين الفريقين الذين تراشقا الحجارة والتهجمات، وأطلق الفريق الثائر صرخات: “ثورة .. ثورة، حرامي .. حرامي … نبيه بري حرامي، وكلن يعني كلن وغيرها”…
ورد الفريق الآخر: “الشعب الخط أحمر… شيعة شيعة…”. وهددوا المتظاهرين بالقتل وأحدثوا خراباً بالأملاك الخاصة من سيارات ومحلات تجارية.
وبدا أن لبنان قد دخل مرحلة جديدة من مواجهات الشارع الثائر ضد شارع السلطة والطبقة الحاكمة، وفلول الشبيحة وأحزاب الطوائف.
ومع مرور 40 يوماً على انطلاق الثورة لابد من مراجعة حسابات الربح والخسارة لكل فريق مع العلم أن الوطن المشرف على الإفلاس والشعب المنهوب هما الخاسران بالدرجة الأولى، فماذا حققت الانتفاضة الشعبية حتى اليوم؟ وكيف تعاملت السلطة الحاكمة ومختلف التيارات السياسية مع “انتفاضة الشعب”؟ وما هي الخلفيات العميقة لهذه الانتفاضة كما يراها كل فريق.
ماذا حققت الثورة حتى اليوم؟
يفهم من التهديد بالشارع المقابل ان المنظومة الحاكمة وصلت إلى الحائط المسدود. فالانتفاضة الشعبية لم تتعب أو تفقد حيويتها، رغم مرور ما يزيد على 40 يوماً، ورغم نزول شبيحة حزب الله وأمل إلى الشارع ومحاولة خلق أجواء صدامية. دون أي شك كسر المتظاهرون حاجز الخوف من المنظومة السياسية والميليشيات الداعمة لها. أسقطوا الحكومة، رغم تهديدات السيد حسن نصر الله، ووقع الحكم في حال من الجمود السياسي، فلا هو قادر على إجراء استشارات نيابية بعد الفرز السياسي الحاصل في المنظومة السياسية، كما هو عاجز عن تأليف حكومة لا تنسجم مع مطالب الثوار، أي حكومة من خارج المنظومة السياسية الفاسدة.
فالبلد المنهوب ينهار مع استمرار الثورة، والحكم يتصرف وكأن البلد في حال طبيعية، إنه الإنكار الشامل وتجاهل الأوضاع المأساوية… لكن المعاناة الحقيقية قد بدأت اليوم.
ومع عجز المحور السوري – الإيراني وقوى 8 آذار عن تأليف حكومة تكنوسياسية، يتابع الثوار قطع الطرقات في معظم المناطق اللبنانية.
فتوحد الساحات والشعارات والمطالب أطاح بالاصطفاف السياسي والمذهبي الذي هيمن على القرار السياسي منذ 30 عاماً. وهكذا ضربت الانتفاضة أكثر معادلات تحكم القوى السياسية بالشارع، رغم محاولات اختراق التحركات الشعبية أو تسييسها ومذهبيتها، وتحطيم شعاراتها.
وأثبتت المسيرات الشعبية بمناسبة عيد الاستقلال وحدة الشعب وقدرته وتماسك مكوناته ومدى التنظيم في صفوفه، وفيما كانت الاحتفالات الرسمية روتينية وكئيبة، تحولت المسيرات الشعبية إلى عرس لبناني يُعيد الأمل ببناء وطن جديد قائم على التكامل والتعاون بين أبنائه.
اهتزاز مشروعية حزب الله:
قام حزب الله على مشروعيتين: مشروعية المقاومة ومشروعية الدفاع عن حقوق المحرومين. المقاومة بحد ذاتها كعمل ثوري وكأهداف بعيدة هي رفض لتركيبة الفساد والمحاصصة.
لكن مع تموضع حزب الله، بدأت المقاومة تخسر جزءاً من مشروعيتها، خاصة بعد تورطها في قتال الشعب السوري والعراقي واليمني ومحاولة إجهاض الثورة في لبنان والعراق.
التحول الكبير الذي أحدثته انتفاضة 17 تشرين يكمن في كسر عامل الخوف لدى كل الناس، وزيادة الوعي المجتمعي لدى البيئات كلها، بما فيها بيئة حزب الله. فالتظاهرات التي خرجت في صور والنبطية وبعلبك والهرمل، هي تظاهرات مطلبية سمحت للشعب باستعادة صوته وقراره السياسي بعد صمت طويل.
فمواقف حزب الله الأخيرة تتعارض مع القاعدة التاريخية، عندما كان الشيعة اللبنانيون ركناً أساسياً يطالب بالمساواة الاجتماعية، وبالدولة المدنية والطروحات العلمانية، ورفض الإقطاعية السياسية والاحتكار العائلي.
اليوم يبدو أن حزب الله يدعم المنظومة الفاسدة والإقطاع السياسي الرديء، مقابل حماية سلاح المقاومة. لكن مواقف الحزب لا تلغي الواقع أن الشعب اللبناني بأسره، ومن ضمنهم شيعة لبنان، هو شعب مهان، مديون، جائع، يفتقر لأدنى الحقوق المدنية، وهو عاجز عن البقاء على قيد الحياة في مواجهة الانهيار والفساد ونهب أموال البلد… الحزب يعيش أزمة وجدانية.
فالمقاومة التي تستند إلى القوة العسكرية والأمنية وإلى تركيبة السلطة الفاسدة، تبدو اليوم وكأنها حامية هذه التركيبة برمتها. وقد يتكبد الحزب المزيد من خيبات الأمل إذا استمر برفضه حكومة “تكنوقراط” يطالب بها الشعب. كما أنه عاجز عن فرض حكومة من لون واحد، لأنه يدرك أن ذلك سيتسبب بالمزيد من الانهيار الاقتصادي، وبخسارة الدعم من بيئته الحاضنة، وعزل لبنان عربياً ودولياً، ووضعه في آتون من الانفجارات الداخلية التي ستطال شراراته وجوده ومستقبله داخل لبنان.
إن تأليف حكومة من 8 آذار يعني إعلان الانهيار الاقتصادي، زيادة العقوبات الدولية على لبنان، حصار المصارف اللبنانية ومنع الاستثمارات الخارجية. وحدها حكومة التكنوقراط قادرة على إعادة ثقة المجتمع الدولي ومنح فرصة جديدة للنهوض بالوطن إلى بر الأمان.
البلد المنهوب:
يوماً بعد يوم ينشر المزيد من فضائح الفساد وعمليات النهب المنظمة للمال العام. وهذا ما يؤكد مرة أخرى عقم الطبفة الحاكمة التي اهتمت بالدرجة الأولى في امور المحاصصة وأكل خيرات البلد وتقاسمها فيما بينها.
هذه المنظومة الفاسدة منذ عام 1993حتى 2018، نهبت أموال الشعب بقيمة 190 مليار دولار كضرائب مباشرة ورسوم.
واستدانت المنظومة الحكومة منذ ذلك التاريخ حتى 2018 مبلغاً هي اعترفت به وتقدره بـ86 مليار و 800 مليون دولار.
والدولة لم تسدد خلال هذه المدة الزمنية اموال الضمان بمبلغ يقارب 5 مليار دولار، بالإضافة إلى ديون المستشفيات والمرافق الصحية الأخرى بقيمة 9 مليار دولار.
وانفقت الحكومة 250 مليار دولار خلال هذه المرحلة على الأمور التالية:
24 مليار دولار دفعت لمؤسسة كهرباء لبنان. لبنان يحتاج إلى 1500 ميغاوات بكلفة مليار ونصف دولار فقط. فكيف أنفق 24 مليار دولار على قطاع الكهرباء ولبنان لا يزال بدون كهرباء 24/24؟
فوائد الدين العام. ديون لبنان تقدر ب 86 مليار دولار. يدفع الشعب اللبناني 84 مليون دولار كفوائد. هذه الفوائد تذهب إلى المصارف اللبنانية بالاتفاق مع المصرف المركزي. وتشكل هذه الفوائد ما نسبته 40% من الإنفاق العام للحكومة.
من يمتلك المصارف التجارية في لبنان:
يعتبر 16 مصرفاً من أصل 76 من أكبر المصارف في لبنان. يمتلك هذه المصارف 16 عائلة لا يتجاوز عدد أعضائها بين ألف وألفين نسبة.
مما يعني ان الفوائد على القروض تذهب بمجملها إلى جيوب هذه العائلات. وتشير الإحصاءات أن واحد في المئة من الشعب اللبناني يملك 50% من الودائع الموجودة في المصارف. أما بقية الشعب اللبناني فهو قابع بلا عمل في مستنقع البطالة والفقر والجوع.
ففي طرابلس والشمال، على سبيل المثال 53% من السكان هم بحدود الفقر وما دون.
في منطقة النبطية 55% هم عاطلون عن العمل أو دون حد الفقر، في البقاع 53%.
وبيروت العاصمة اللبنانية يعيش فيها 33% دون الحد الأدنى للفقر، يعانون من الجوع والعوز.
مقابل ذلك تعاني ميزانية الحكومات اللبنانية على مدى عقود من عجز يصل إلى 15% وأصبحت قيمة العجز حوالي 90 مليار دولار.
وعندما توجهت حكومة الرئيس الحريري إلى المجتمع الدولي لمساعدة لبنان على النهوض من أزمته وعدم ذهابه نحو الانهيار، طالبت الدول المانحة بضرورة إجراء إصلاحات كشرط أساسي قبل أية مساعدات. وعوض ان تتجه المنظومة السياسية إلى وقف الهدر ووضع حد لعمليات النهب المنظمة، وإغلاق المعابر غير الشرعية، لجأت الحكومة إلى زيادة الضرائب على الناس “الفقراء أصلاً”.
وهنا كانت المصيبة الكبرى التي أنزلت المواطنين العاطلين عن العمل والخائفين والمرضى والمهملين إلى الشارع، يطالبون بصوت واحد بضرورة اقتلاع الطبقة الحاكمة كلها.
فالدولة تعاني من الديون الطائلة، ومن العجز في الميزان التجاري والمدفوعات، والتهرب الضريبي، وهيمنة ثقافة الفساد، والمحاصصة في السرقة، والتعدي على المال العام، واستباحة الأملاك العامة، والاستخفاف بسلامة المواطنين وصحتهم ومشاعرهم… أضف إلى ذلك فقدان الدولار والعملة الصعبة، مما يهدد السلامة العامة في حال عجز اللبنانيون على استيراد الدواء والمواد الأساسية والحيوية، وهذا يدخل البلاد في أزمة الانهيار الشامل.
تبادل الاتهامات:
منذ انطلاق الانتفاضة حتى اليوم، ومع بروز العقد السياسية حول تأليف الحكومة وشكلها، وبرنامجها السياسي الإصلاحي ومع تأخر رئيس الجمهورية في إطلاق الاستشارات النيابية الإلزامية، لم ينفك رجال السياسة يتراشقون التهم فيما بينهم.
فالعهد يرد الفساد إلى أهل الحكم السابقين، التيار الوطني يتهم الحريري والمستقبل والعكس صحيح. فتبادل الاتهامات هو أفضل دليل على شمولية الفساد.
وحده الشعب اللبناني يتهم المنظومة السياسية بكاملها بعد ان أفسدت حتى البطر، وأوصلت البلاد إلى الانهيار الشامل.
من جهة أخرى يتهم أهل الحكم الحراك الشعبي انه ليس بريئاً، وأن السفارات الخارجية تموله وتحركه. وأن أسباب الانتفاضة ليس الفقر الوجوع والمرض والإهمال وأكوام الزبالة التي تكسو الشوارع بل هي أعمق من ذلك.
ويدعي فريق 8 آذار أن الحريري وجنبلاط وجعجع افتعلوا الانتفاضة لمنع لبنان من استخراج الغاز والنفط، إرضاء للولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل، لكن هؤلاء يستخفون بهذه الادعاءات ويردون أن المنظومة الحاكمة، بقيادة التيار الوطني الحر المسؤول عن ملف الغاز والنفط أسس شركات وهمية لتنوب عن الجانب اللبناني وتتقاضى عمولة تقدر ب 10 بالمئة من مداخيل النفط والغاز، تذهب الى جيوب الطبقة الفاسدة.
ويدعي هؤلاء أن الحكم وصل إلى الحائط المسدود وانفضح فساده واستغلاله لمواقع السلطة، وأن الأمور لم تعد تطلى على أحد.
ومهما تكن الحقيقة، فإن الاتهامات المتبادلة بين اهل الحكم والمكونات السياسية والحزبية تؤكد مرة اخرى أن الجميع ضالع في الفساد المنظم وفي عمليات نهب المال العام وثروات البلاد.
هكذا بعد مرور 40 يوماً، وصل اهل الحكم إلى نقطة اللاعودة. الفريق السوري – الإيراني بدأ يهدد بالنزول إلى الشارع، لا بل بدأ بذلك، لمعالجة الأمور بالقوة. وهذا ما سيؤدي إلى توترات أمنية تؤذي الكثيرين.
فهل بلغ حزب الله مرحلة تنفيذ التهديدات التي أطلقها السيد حسن نصر الله في ظهوره الأأول مع انطلاق الانتفاضة، عندما أعلن أن نزول حزب الله إلى الشارع لن يكون بالأمر السهل وأنه في حال نزل فلن يخرج بسهولة.
فالحزب يمسك بورقة الأمن والاستقرار وهو ينتظر تطورات إيجابية خارجية قد تدفع إلى تنفيس الاحتقان، لكن بالمقابل يبدو أن لبنان بكامل منظومته السياسية قد يواجه المزيد من العقوبات الاقتصادية. ولا يستبعد ان ينهار الامن بالكامل عند ظهور سلاح آخر يواجه سلاح حزب الله وأمل.
فهل نحن على مشارف حلقة جديدة من العنف وصدام الساحات؟أم أن السلطة الحاكمة والممانعة ستعود إلى وعيها وتضحي مع آخرين من أجل إنقاذ الوطن؟؟