بقلم بيار سمعان

يكاد لا يصدق المرء المشهد الإيراني الحالي والانتفاضة الشعبية العارمة في معظم المدن الفارسية.
بعد ان كانت إيران تصدر الثورات إلى الخارج، تحولت شوارع مدنها الثائرة إلى ساحة دمار ومواجهة مع الأجهزة الأمنية وقوى السلطة، مما تسبب حتى الآن بوقوع ما يزيد على 12 قتيلاً، ومئات الجرحى.
وأحرق المحتجون الإيرانيون عددا من المباني التابعة لحكومة الملالي، وصور علي خامنئي. كما أحرقوا احد فروع البنك المركزي ومئة مصرف، بعد ان خرج في عدة مدن الآلاف في مظاهرات غاضبة، احتجاجاً على قرار الحكومة رفع سعر البنزين ثلاثة أضعاف.
ولجأ المتظاهرون إلى قطع طرق رئيسية بسياراتهم وأضرموا الإطارات في شوارع العاصمة الإيرانية طهران، أبرزها “طريق الإمام علي”.
وهكذا على ما يبدو، انتقلت الثورات التي مولتها وصدرتها إيران إلى الدول المجاورة، إلى الداخل الإيراني، مما ينبيء أن بلاد فارس قد تشهد حقبة جديدة قد تنتج نوعاً جديداً من النظام، بعد مرور 40 عاماً على إقامة الجمهورية الإسلامية في إيران، في حال حققت الانتفاضة أهدافها.
فما حقيقة ما يجري في الداخل الإيراني؟ وما هي انعكاساته على دول الجوار؟

إيران جمهورية إسلامية:
في 16 كانون الأول 1979، أرغم شاه إيران محمد رضى فهلوي على مغادرة البلاد، بعد أن اجتاحت المظاهرات الصاخبة مدن إيران.
وساهم رئيس الوزراء آنذاك شابور بختيا، في الإطاحة برأس البلاد، ليعود الخميني من منفاه في باريس، ويعلن أنه من الآن فصاعداً، هو من يعين الحكومات في إيران، وأن من يعارضه يعارض الله.
وهكذا تحول النظام الملكي في إيران إلى نظام ديني تتحكم بقراراته مجموعة من الملالي تستمد قوتها من الوحي الإلهي، وتتبلور في حكم ولاية الفقيه.
نفا الخميني شابور بختيار إلى الخارج حيث جرت تصفيته، ثم انطلقت عملية تنظيف، البلاد من الزعامات التقليدية والمعارضة، وبدأت سلسلة من الاغتيالات والإعدامات، لتركيز دعائم الجمهورية الإسلامية. ثم دعا أية الله الخميني إلى تصدير هذه الثورة إلى العالم العربي. فكانت الحرب الإيرانية – العراقية، تحت شعار المقولة التي رددها سيد المقاومة في لبنان، والتي تهدف إلى “التخلص من الحالة الاستعمارية والإسرائيلية”، كشرط لتغيير الأنظمة وإقامة جمهوريات إسلامية، تكون جزءاً من الجمهورية الإسلامية الكبرى.

أي يجب تحرير الدول العربية من الحالة الاستعمارية – الإسرائيلية أولاً، كمقدمة لتغيير الأنظمة السائدة. وهذا يشابه المقولة التي أطلقها بعض القادة الفلسطينيين خلال الحرب اللبنانية، “إن الطريق إلى القدس تمر بجونية وعيون السيمان…” ولا تتوجه مباشرة إلى العدو الصهيوني المحتل.
هذه المسيرة “التحريرية” الطويلة، قد تكون جزءاً من مخطط “الشرق الأوسط الجديد” الذي يلتزم بتنفيذه جميع خصوم الدولة العبرية ومن يدعون العداء للولايات المتحدة.
هكذا أصبح المسلم يقتل مسلماً آخر، وأصبح الفارسي يقتل العربي، والمتطرف يوجه سلاحه إلى صدور الأقليات في الشرق الأوسط.

إيران من الثراء إلى الفقر:
تعتبر إيران من الدول الثرية بالنفط والثروات الطبيعية. ويقدر احتياط الغاز الطبيعي لديها بنحو 30 تريليون متر مكعب. وتمتلك إيران 10 في المئة من احتياطي النفط في العالم، ولديها 15 في المئة من احتياط الغاز أيضاً، وتعتبر 20 في المئة من أراضيها صالحة للزراعة.
وقدرت عائدات النفط والغاز السنوية، حتى عام 2015 ب 250 مليار دولار.
وتخصص الجمهورية الإسلامية 15% من الدخل القومي للدفاع، و 59% للشؤون الاجتماعية، من ضمنها المساهمة الإيرانية لدعم المناصرين في الخارج، وخلق خلايا وتنظيمات مسلحة ومدربة، وهي ملتزمة عقائدياً بولاية الفقيه، وتأتمر بتوجيهاته وسياسته وتقدم له الولاء الكامل بالمقابل.
واستفادت الجمهورية الإسلامية من وجود الأقليات الشيعية المتناثرة، هنا وهناك في الدول العربية، واستغلت حالة الحرمان لدى بعضها، لبت أفكار التحرر، ووفرت لبعضهم الدعم المالي والعسكري والعقائدي، بغية نقلهم من حال الاعتماد على الأنظمة التي يعيشون في ظلها إلى الاستقلالية.
داخلياً فرض نظام الملالي نظاماً دينياً متشدداً حد من الحريات العامة، انطلاقاً من حرية اللباس ووصولاً إلى الحريات الفكرية التي تتعارض مع الفكر الإسلامي، كما تراه أو تفسره الطبقة الحاكمة.
وعمد النظام الجديد الذي دغدغت مخيلته احلام استعادة الإمبراطورية الفارسية أمجادها الغابرة، إلى نقل البلاد إلى حالة من الاكتفاء الذاتي عسكرياً. فأنفقت البلاد المليارات من الدولارات في الصناعة العسكرية والطاقة النووية، الأمر الذي أثار مخاوف الدول المجاورة، وقلق إسرائيل، وعدم ارتياح العالم الغربي، خاصة حول الصناعة النووية والأسلحة البالستية الدقيقة والبعيدة المدى.
غير أن الإنفاق في عمليات التسليح ودعم الثورات والتنظيمات الخارجية جاءت على حساب راحة وبحبوحة المواطن الإيراني الذي أحس أنه لا يستفيد من ثروات بلاده (53% من الدخل العام) بل هو يساهم أيضاً في 28% من الدخل القومي كضرائب مباشرة تفرض عليه إلى جانب 19% من خصخصة القطاع العام.

البطالة والفقر في إيران:
قدرت مؤسسة «بورغن» العالمية لمكافحة الفقر ثروة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خمينئي بحوالي 95 مليار دولار ويستحوذ فقط 5% من الطبقة الحاكمة في إيران على منابع الثروة في البلاد.
ويدعي خبراء وناشطون إيرانيون أن القادة السياسيين والعسكريين والمؤسسات الأمنية والحكومية والحرس الثوري في إيران حصلوا عن طريق الفساد والاختلاس على أموال طائلة نتيجة استغلال مراكزهم والسلطة الممنوحة لهم.
ويستحوذ مكتب خامنئي على مؤسسات تابعة له لديها ميزانية خاصة. كما يهيمن على مؤسسة “ستاد” العملاقة، وهي هيئة لمصادرة العقارات والأملاك بحجة أنها تعود لمناهضي الثورة، او انها عقارات عامة لا مالك لها، تصادرها لصالح بيت المرشد ومؤسساته المتشعبة، وتجني ارباحاً تقدر بمليارات الدولارات، توضع في حسابات غير خاضعة للرقابة.

وتمتلك المؤسسات المرتبطة بخامنئي 60% من ثروات إيران.
مقابل ذلك، ادعى برلمانيون وخبراء أن 80% من المجتمع الإيراني يرزحون تحت خط الفقر. واعترف مسؤولون بوجود 20 مليون شخص تحت خط الفقر وأن ما يقارب 10% يعيشون في حالة الفقر المدقع. كما يقدر خبراء حكوميون أن 50% من السكان يمتلكون منزلاً، يقدر أن 13% منها هي مساكن رديئة.
ويعتبر الفقر من الأسباب الهامة لسوء التغذية، وأعلن المدير العام للصحة أن 50 ألف طفل يعانون من سوء التغذية من فئة الأعمار 2-6 سنوات و مئة ألف طفل من فئات عمرية أخرى مصابون بسوء التغذية.

عاطلون عن العمل:
وأكد محمد رضا بادامتش، رئيس لجنة العمل في مجلس شورى النظام، في آب 2018، أن واحداً من كل ستة أشخاص في المجتمع الإيراني يعمل أو لديه وظيفة، وأن 20 مليون من الشباب (من15 إلى 29 عاماً) هم عاطلون عن العمل.
وتعتبر البطالة من التحديات الكبرى التي يواجهها نظام الملالي، وكانت السبب الرئيسي لانتفاضة عام 2017 والتي وقعت في المدن الصغيرة حيث نسبة البطالة مرتفعة للغاية.
وتسببت البطالة برواج البغاء بين النساء وبالأعمال الإجرامية المختلفة.

العقوبات الأميركية ضد إيران:
قد تكون العقوبات الأميركية والدولية من أهم العوامل المؤثرة في زعزعة الاقتصاد الإيراني وتردي الأوضاع المعيشية في الجمهورية الإسلامية.
وشهدت العقوبات التي بدأت في عام 1979 مع الرئيس الأميركي جيمي كارتر، واستمرت مع الرؤساء الذين خلفوه. وشملت العقوبات على إيران حرية الاستفادة من المصارف الدولية والحصول على قروض مالية، لتتصاعد حدتها وتشمل الخدمات المصرفية، والعقوبات ضد أطراف ثالثة.
ومع خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران (2018) أصبحت العقوبات على الجمهورية الإسلامية هي “الأشد على الإطلاق”، فشملت صادرات النفط والشحن والمصارف، وجميع القطاعات الأساسية في الاقتصاد.
وأكد الرئيس الأميركي “أن هذه هي العقوبات الأشد التي نفرضها على الإطلاق، وسنرى ما يحدث مع إيران”. وحددت الولايات المتحدة 12 طلباً على إيران للاستجابة لها من أجل رفع العقوبات، من بينها: إنهاء دعم الإرهاب وإنهاء التدخل العسكري في سوريا، وقف تطوير الصواريخ النووية والبالستية بشكل كامل…
واتهم الرئيس الإيراني حسن روحاني الولايات المتحدة بانها تسعى لتغيير النظام في إيران. وأكد رفض بلاده التفاوض مع الإدارة الأميركية قبل رفع العقوبات عليها.
هذه العوامل مجتمعة خلقت ظروفاً صعبة في البلاد وأدت إلى اندلاع موجة التظاهرات في المدن الإيرانية.

مظاهرات إيران:
لليوم الثالث على التوالي، تتواصل الاحتجاجات الإيرانية على رفع أسعار الوقود. وأقدم المتظاهرون على إحراق فرع المصرف الوطني ومصارف أخرى في مدن إيرانية. وتشهد مدن طهران وشيراز وأصفهان وتبريز احتجاجات شعبية، والى مواجهات دامية مع قوات الحرس الثوري، بالتزامن مع مطالبة المتظاهرين بإسقاط النظام الحاكم واقتلاع المرشد الأعلى للجمهورية.

العدوى تنتقل بالخط المعاكس:
وصف مسؤولون إيرانيون أن ما يجري في العراق ولبنان هو «فتنة» تقودها دول، غربية وإقليمية لزعزعة الأوضاع. ووصفت المتظاهرين بأنهم «مندسون ومدفوعون من الولايات المتحدة وإسرائيل» لكن الطبقة الحاكمة في إيران والتي تخوفت من انتقال عدوى الاحتجاجات من العراق ولبنان إلى قلب إيران، تواجه اليوم واقعاً جديداً.
تتعامل السلطات الإيرانية مع هذه الاحتجاجات بطريقة مشابهة لتلك الحاصلة في المنطقة، خاصة في العراق، حيث قتل ما يزيد على 350 متظاهراً حتى الآن.
وما يحدث في العراق، قد يتكرر مجدداً في إيران. إذ عمدت الحكومة على قطع الإنترنت وأوقفت وسائل التواصل الاجتماعي، خوفاً من انتشار مقاطع مصورة تظهر القمع الذي يتعرض له المتظاهرون.
كما لجأت السلطات الإيرانية إلى تخوين المتظاهرين كما يجري في العراق ولبنان وتوجيه الاتهامات إليهم، في محاولة لإظهارهم على أنهم مخربون وضد النظام، وأن الأجهزة الامنية التي تتدخل لمنع أي انقلاب او تمرد على السلطة، تعرف من يقف وراء التظاهرات. وهدد المسؤولون بإنزال اقصى العقوبات لمن يريدون السوء للعراق وإيران …. ولبنان.
فهل تشهد هذه البلدان الثلاثة محاولة تغيير النظام والتخلص من الفساد المستشري فيها، أم أن ما يجري هو حلقة جديدة لاستنزاف الثروات النفطية والبشرية واستهلاك المزيد من الطاقات في أعمال عنف وحروب مدمرة، لما تمتلك من خيرات وثروات طبيعية، من ضمنها الغاز والنفط في لبنان.
يبدو ان عملية فك ارتباط بين الشيعة العرب والجمهورية الإسلامية هي سارية على قدم وساق. وقد يكون لشيعة العراق دولتهم المستقلة. على أن تبقى عربية التوجهات وليست فارسية الميول.
الثابت ان استمرار الاضرابات في الداخل الإيراني سينعكس سلبياً على العراق ولبنان، وقد تفيد التنظيمات المنضوية تحت ولاية الفقيه قراءة التزاماتها الوطنية، وتعيد بالتالي تمركزها داخل البلدان المتواجدة فيها.
فهل سيشهد لبنان إعادة لبننة حزب الله مع احتمال حدوث تبدلات في تركيبة النظام القائم في الجمهورية الإسلامية؟
النتظاهرون لن يتراجعوا، والأنظمة غير مستعدة للتخلي عن مكتسباتها فماذا سيحمل المستقبل للجميع؟
الأشهر القادمة قد تجيب على ذلك.