انتفاضة اللبنانيين دخلت منعطفاً خطيراً
دخلت انتفاضة اللبنانيين في يومها العاشر منعطفا خطيراً بعد الاحتكاكات التي جرت بين القوات الامنية، ممثلة بالجيش وقوى الامن الداخلي والمحتجين، اثر قرار من السلطة بفتح الطرق التي يقطعها المتظاهرون احتجاجا على اوضاعهم المتردية على كل المستويات، في حين بدا أن الامور لا تزال مقفلة على أي حل يتوافق عليه الطرفان.
فالحكومة، وبدعم من حزب الله خصوصا، لا تزال رافضة للاستقالة تحت الضغط الشعبي، والمحتجون لا يبدون في وارد الخروج من الشارع قبل تحقيق مطالبهم، حيث عادوا للاحتشاد بكثافة في ما اطلقوا عليه تسمية «سبت الساحات». وبعد قرار السلطة بفتح الطرقات الأساسية والحيوية عمدت الأجهزة الأمنية منذ صباح امس الاول الاول الى تنفيذ الاوامر وسط حالات كر وفر بين هذه القوى وبين المعتصمين الذين كانوا يتراجعون ومن ثم يرجعون لاقفالها، لاسيما في منطقة جل الديب شمالي بيروت وعلى جسر الرينغ المحاذي لساحة الشهداء وسط العاصمة، حيث وصلت مساءً دفعة كبيرة من المتظاهرين للانضمام الى المعتصمين يتقدمهم عدد من الآباء والراهبات.
غير ان المشهد كان اكثر خطورة في عاصمة الشمال طرابلس، فبعد المشهد السلمي الحضاري الذي قدمه اهل المدينة على مدى الايام العشرة الماضية، انفلتت الامور امس بعد ان أطلق الجيش أطلق أعيرة نارية في الهواء خلال احتجاج أغلق طريقا، وأصيب 7 اشخاص. في حين قالت معلومات ان اطلاق النار لم يكن على خلفية فتح الطريق، بل لتوقيف احد المطلوبين ويدعى عامر أريش وهو احد قادة المحاور السابقين، وحصل اشتباك بينه وبين الجيش.
وفور تبلغه بالحادثة أجرى رئيس الحكومة سعد الحريري اتصالا بقائد الجيش العماد جوزف عون وطلب منه اجراء تحقيق فوري واتخاذ التدابير اللازمة، مؤكدا على ضرورة حماية حرية التعبير السلمي للمواطنين، كما على الحفاظ على الطابع السلمي للتحرك. بدوره قال المكتب السياسي لـ «تيار المستقبل» عقب اجتماع طارئ انه يرى في المشهدية التاريخية وغير المسبوقة والصرخات التي رفعتها الحشود بأسلوب راق وحضاري، تجسيدا لمطالب مزمنة ومحقة، محذر من من مخاطر افتعال اي صدام، ووضع المتظاهرين السلميين في مواجهة مع الجيش والقوى الأمنية، مشيرا إلى انه يتابع ما حصل في البداوي لتبيان الحقائق وتحديد المسؤوليات ومحاسبة المرتكبين. ورفض المستقبل اي دفع بالبلاد إلى حرب اهلية جديدة مؤكدا التصدي لأي انهيار اقتصادي. وتحدث إعلاميون امس عن ان قائد الجيش جوزيف عون رفض طلب الرئيس ميشال عون فتح الطرقات، مؤكدا أن الجيش «لن يفتح الطرقات بالقوة». وقدا بدا واضحا امس ان الجيش لا يريد الاصطدام مع المتظاهرين لما لذلك من مخاطر قد تجر البلاد الى ما لا تحمد عقباه. وبالتالي فإن مسألة فتح الطرقات باتت معلقة بايجاد حل سياسي يتعلق بمسألة الحكومة.
الحكم المأزوم
الفريق الحاكم، المأزوم، يشهد هو الآخر حالات كر وفر بين أطرافه، وقد أوحت المعطيات الأخيرة ان الأمور ذاهبة الى تصعيد بعد سقوط الخيارين اللذين كانا محور الاتصالات الأخيرة بين رئيسي الجمهورية والحكومة وهما: اما تعديل وزاري بإقالة مجموعة من الوزراء ممن يستفزون الشارع وعلى رأسهم وزير الخارجية جبران باسيل. واما الذهاب نحو تشكيل حكومة مصغرة برئاسة الحريري. لكن الخيارين جوبها برفض مطلق من «حزب الله» الذي يبدو واثقا من قدرته على إخماد انتفاضة الشارع، بشتى الوسائل. تمسك أحزاب السلطة الرئيسية بهذه الحكومة لا ينطلق من المسوغات نفسها الا انه يتقاطع ويتشابك. فالحريري صاحب القرار الأول في الاستقالة يبدو مترنحا بين هتافات المحتجين التي تصله من ساحة رياض الصلح والمطالبة باستقالته وبين «ضغوط» هائلة يصطدم بها من حزب الله ومن التيار الوطني الحر. وهو حمل الى رئيس الجمهورية طرحا يقضي بتعديل وزاري الا انه اصطدم برفض الأخير. وبعد تقديم رئيس الحكومة ورقة إصلاحية، وبعد انفتاح رئيس الجمهورية على امكان تعديل الحكومة، خرج نصرالله الجمعة على المحتجين شاهرا لاءاته الثلاثة، «لا نقبل بإسقاط العهد ولا نؤيد استقالة الحكومة ولا نقبل بانتخابات مبكرة لانها معقدة».
مصادر سياسية رات ان اخطر ما جاء في كلام نصرالله هو تسييس الحراك وربطه بمحور معاد له من خلال اتهامه بتلقي تمويل من سفارات أجنبية او تلميحه الى ارتباطه بأجهزة مخابرات أجنبية، فإن اللافت في خطاب نصرالله هو توجهه الى اللبنانيين بلهجة «الآمر والناهي». ويدرك حزب الله أن إسقاط العهد أو استقالة الحكومة أو حتى مجلس النواب، فيما لو حصلت فإنها لن تتوقف عند هذا الحد، وان معادلة الجيش والشعب والمقاومة قد ترنحت. وهو انطلاقا من هنا سير دورياته السيارة في مناطقه، في ضاحية بيروت الجنوبية وفي مدن جنوبية مثل صور والنبطية، ليقول للبنانيين لكم شارعكم ولنا شارعنا.
اما رفض رئيس الجمهورية اسقاط الحكومة او اجراء تعديل حكومي فمرده الى رفضه التخلي عن وزير الخارجية جبران باسيل انطلاقا من مجموعة أسباب أبرزها: ان باسيل، الذي أصابته الحصة الأكبر من شتائم المعتصمين هو الرجل القوي في العهد وصورته ومثاله، ناهيك انه المرشح المحتمل لخلافة رئيس الجمهورية، ما يعني ان اسقاطه او التخلي عنه يجرد عون من ورقة قوية في مواجهة خصومه الداخليين وبالتالي يؤثر في متانة تحالفه مع حزب الله الذي سيحرم بدوره من الغطاء المسيحي الذي يحتاجه اكثر من أي وقت مضى. من جانبه، ينطلق رفض حزب الله لأي تعديل وزاري او استقالة الحكومة من عاملين: فهو يدرك ان قسما كبيرا من بيئته وشارعه يشارك في هذه الانتفاضة ويهشم صورته وهيبته، الامر الذي يفسر تشدده في لجم الاحتجاجات، ويدرك ان قبوله بأي تنازل ولو تعديل وزاري سيكون بمنزلة حجر الدومينو، الذي سيكر تنازلات أخرى قد تصل الى الإطاحة بالمجلس النيابي الحالي الذي يملك فيه الحزب الأكثرية. ويصرّ حزب الله على ان ما يجري «مؤامرة» بدأت في شوارع بغداد ويُراد لها ان تصل الى لبنان. وتؤكد مصادر الحزب ان بوصلة الحراك تغيّرت وباتت وجهتها مغايرة لمطالب الجوع ومحاربة الفساد وشددت على ان استمرار الوضع على ما هو عليه وبهذه الشعارات معناه ان الامور ذاهبة الى تكرار سيناريو حرب 1975، كما زعمت ان الهدف من التحرّك القائم إزاحة الوزير جبران باسيل عن المشهد السياسي كَونه اوفر المرشّحين حظاً لرئاسة الجمهورية، كما زعمت ايضا ان المتظاهرين في طرابلس يرددون شعارات «باللهجة السورية».