بقلم بيار سمعان

شهدت الساحة اللبنانية يوم الاحد الماضي حدثين هامين: الاول هو احتفال القوات اللبنانية بذكرى الشهداء. وما رافق ذلك من خطاب مفصلي للدكتور سمير جعجع حول ما يجري داخلياً واقليمياً، والحدث الآخر اللافت، هو قيام حزب الله بتنفيذ عملية انتقامية ضد حافلة اسرائيلية، داخل الاراضي المحتلة.

وجاء هذان الحدثان ليدلا الى عمق التناقض في التوجهات السياسية الجوهرية لدى فريقين  يسعيان الى تحديد توجيه مسار الدولة في لبنان، كل حسب رؤيته واهدافه البعيدة.

  •  جعجع والعهد الحاكم

تجاهلت القوات بالشكل العهد  ورموزه، عندما بدا جلياً غياب اي ممثل لرئيس الجمهورية عن «قداس الشهداء».

بالمقابل حضر رئيس مجلس النواب نبيه بري ممثلاً بالنائب مصطفى الحسيني ورئيس الحكومة سعد الحريري ممثلاً بالنائب جمال الجرّاح، في حين لم يحضر اي ممثل عن رئيس الجمهورية او التيار الوطني الحر.

بالمضمون اكد رئيس القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع انه رغم دعمه المشروط للعماد عون لرئاسة البلاد، منعاً للفراغ،  ورغم اتفاقية معراب وما تضمنت من تفاهمات وتعهدات جرى تجاهلها بعد وصول العماد عون الى سدة الرئاسة، لا بل عمل التيار على إلغائها عملياً، وعلى تقويض ومحاصرة القوات بشتى الوسائل.

لذا اكد قائد القوات في كلمته انّ لنا لبناننا ولهم لبنانهم، لنا جمهورية الارز واكاليل الغار، ولهم جمهورية الموز وعروش العار، لنا حزب الآلاف من الشهداء ولهم حزب مليارات الصفقات وصفقات المليارات. لنا القوة بجيشنا اللبناني ولهم استقواءهم بعضلات خارجية، حافظنا على الشرعية عندما دقّ الخطر على ابواب الدولة، وهم وبكل بؤس ووقاحة يُسخّرون الشرعية لخدمة الدويلة (حزب الله) في زمن قيام الدولة… نحن لبطنا الكراسي بأقدامنا مرات ومرات، حتى لا نساوم على مبدأ وقضية، وهم بروا اقدامهم وعفروا جباههم من اجل الكراسي.

وبالنسبة للصراع العربي الاسرائيلي، قال جعجع «ان التزام لبنان الصراع العربي الاسرائيلي هو امر مسلم به انطلاقاً من ايماننا بعدالة القضية الفلسطينية من جهة، ومن مبدأ التضامن العربي ووجود لنبان ضمن الجامعة العربية من جهة ثانية، ولكننا لا نفهم وفق اية اسس ومعايير يريد احد الاطراف اللبنانيين الزج بلبنان وشعبه في آتون المواجهة بين الولايات المتحدة وايران؟

واكد جعجع انه من غير المسموح ان يفرض على اللبنانيين امر واقع بهذه الخطورة، التي تستوجب المعالجة بأقصى السرعة قبل خراب البصرة وحريق روما لا سمح الله.

ووصفت كلمة جعجع  انها كانت الاشرس تجاه العهد ورئيس التيار الوطني الحر الذي وصفه دون ان يسميه بكل الاوصاف، فاصبح «كالأرنب» الذي يدعي حماية حقوق المسيحيين، لكنه بالواقع حوّل لبنان الى مزرعة واللادولة، وجعله بلد السمسرة، لبنان الاقزام والوصولية والانتهازية والاستئثار والفساد.. وهذا ما جعل الدولة تتآكل امام الدويلة، واركان الدولة يمالئون الدويلة ويغسلون ايديهم من الدولة.. وهم يمنعون المواطن من الوصول الى دولة فعلية تحقق له تطلعاته، مع وجود دويلة تصادر القرار الاستراتيجي، وتقيم اقتصاداً موازياً ولا تتورع من استخدام وسائل عنفية لمحاولة تطويع معارضيها وكمّ افواههم، هذا ما تسبّب طيلة العقود الأخيرة وحتى اليوم بتشويه الحياة السياسية في لبنان والوصول الى دولة معثورة وغير سليمة.

ويفهم من كلام جعجع انه حاول استهداف تحالف العهد والمقاومة ورضوخ الأول لتوجيهات وتوصيات الثانية.

فالمشكلة الأساسية لدى الفريق «السيادي» في لبنان هي محاولة الاثنين ( العهد والمقاومة) فرسنة لبنان وربطه  بمحور الهلال الشيعي الذي يمتد من ايران الى بيروت، وهذا مناقض لمبدأ قيام الدولة المستقلة وربط قراراتها وتوجهاتها السياسية بقرارات ولاية الفقيه.

وكان سمير جعجع، حسب ما اوردت صحيفة «السياسة» الكويتية قد كشفت  عن وجود مخطط ايراني يهدف الى السيطرة التامة على لبنان عبر ضرب القوات اللبنانية، بناءً على تقرير بالغ  الجدية من سفارة اوروبية، عن اوامر ايرانية بعزل القوات اللبنانية واضعاف سمير جعجع تمهيداً لتصفية القوات، كونها تمثل العقبة الأخيرة امام السيطرة الايرانية الكاملة على لبنان، على ان يتولى حزب الله وفريق رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل تنفيذ هذا المخطط. وسبق ذلك احداث الجبل ومحاولة تطويق الزعيم وليد جنبلاط وزجّه في السجن بقرار من المحكمة العليا »المعد مسبقاً».

وتأمل ايران احكام سيطرتها على لبنان قبل الانتخابات الاميركية وعودة دونالد ترامب الى الحكم مجدداً، اثر انتشار شائعات ان ترامب سيلجأ، اولاً بأول الى مهاجمة ايران وتدمير قدراتها العسكرية والاقتصادية، في حال لم تجلس الى طاولة الحوار وتلتزم بالشروط الاميركية، ومن ضمنها الانسحاب من الدول العربية والتوقف عن التدخل العسكري فيها،  وتحجيم حزب الله…

وتأمل ايران، في حال تمكنت من السيطرة بالكامل على لبنان وسوريا، ان تقاوم الرئيس الاميركي ان كان ترامب او سواه. وتستفيد  ايران من انشغال الادارة الاميركية في انتخاباتها لتنفيذ مخططها على الساحة اللبنانية.

على هذه الخلفية، يمكن فهم كلام رئيس القوات اللبنانية وانتقاداته للعهد ولرئيس التيار ولحزب الله بشكل مباشر وصريح. وهكذا يضع جعجع اللبنانيين امام احتمالين وخيارين لا بديل عنها. اما اختيار الدولة غير الخاضعة للسيطرة الايرانية، عبر ادوات محلية، او الانصياع للمخطط الايراني الذي يقوده حزب الله بموافقة العهد ودعم رئيس التيار جبران باسيل.

  • حزب الله ورد الاعتبار

وفيما قررت القوات انها ستتجه في المرحلة المقبلة نحو التصعيد السياسي على المستوى الاعلامي والحكومي، وانها لن تقبل بعد اليوم مواصلة اعتماد الوسطية والاعتدال وتدوير الزوايا مع الافرقاء، وانها لن تسكت عن محاولات تحجيمها محاصرتها او اقصائها سياسياً في عملية تفاهم مشتركة بين جبران باسيل وسعد الحريري، قام حزب الله في الجنوب اللبناني بتدمير آلية اسرائيلية من بعد ظهر اول ايلول 2019.

ونفذت مجموعة الشهيدين حسين زبيب وياسر ضاهر عملية تدمير آلية عسكرية من داخل الاراضي المحتلة.

وعلى الأثر وسع العدو الاسرائيلي، كما ذكرت  وسائل الاعلام، دائرة القصف في اطار ردّه على ضربة حزب الله، واستهدفت القذائف المدفعية «المحرقة» خراج بلدتي مارون الراس وعيترون الحدوديتين، وسط تحليق طائرات الاستطلاع على علو منخفض.

وامتدح انصار المقاومة هذه العملية العسكرية، بعد ان انتقم حزب الله لمقتل خبيرين في التكنولوجيا العسكرية. جاءت العملية تلبية لتعهدات الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله ان الرد سيأتي من لبنان وهو قريب جداً.

وكما لفّ الغموض عملية الطائرات المسيّرة في الضاحية وجرى استبعاد اي تحقيق رسمي، يلف ايضاً الغموض حقيقة ما جرى خلال عملية الرد.

وبينما يدعي حزب الله اصابة احدى الحافلات العسكرية والتسبّب بمقتل وجرح مَن في داخلها، ادعت اسرائيل ان الحافلة وضعت هناك  عن سابق تصميم، وانها قامت بنقل المصابين بواسطة احدى المروحيات. ونشرت مشاهد عملية النقل للتمويه والإيحاء ان حزب الله حقّق نصراً. كما تصر القوات الاسرائيلية على عدم سقوط اي قتلى او جرحى في صفوفها. وان ما جرى نقلهم هم دمى (Manequin)   وضعوا داخل العربة.

ومهما تكن صحة هذه الادعاءات، يبقى السؤال الأهم يتمحور حول الاستفادة من هذه العمليات العسكرية.

فاسرائيل التي لا تتردّد من توجيه ضربات محددة ضد اهداف عسكرية في العراق وسوريا ولبنان  مؤخراً، فهي تعيش هاجز التنامي الخطير للتهديدات التي يُشكّلها وجود قوات ايرانية على حدوده الشمالية، وفي الجولان والداخل السوري والعراقي، كما تتخوف من تنامي القدرات العسكرية المتطورة لدى ايران والتنظيمات التابعة لها. لذا تقوم طائراتها بضرب اهداف محددة لخصومها للحؤول دون امتلاكهم صواريخ دقيقة قادرة على اصابة اهداف استراتيجية في الداخل الاسرائيلي.

  •  احتمالات الحرب

اصبح مسلماً به ان لا اسرائيل ولا الولايات المحدة ولا حزب الله يريدون اشعال حرب في المنطقة. فاسرائيل والادارة الاميركية منهمكان بالانتخابات في بلديهما. كما لا يرغب حزب الله ان  يتسبّب بحرب كبيرة يعلم جيداً انها ستكون الأخيرة بالنسبة للبنان، رغم كل الخسائر التي قد تتكبدها اسرائيل.

هذا الواقع لا يلغي احتمال اندلاع حرب مفتوحة اذا تطورت الامور في المنطقة وامرت ايران بفتح جبهة لبنان، لفرض المزيد من الضغوطات على ادارة ترامب ولتدعيم وجودها على الساحة اللبنانية من خلال حزب الله.

  •  لبنان في خطر

حيال هذا الانقسام العميق على الساحة اللبنانية، وفي ظروف صعبة يشهدها لبنان على اصعدة الادارة والاقتصاد والأمن والسياسة، ومع ارتفاع حدة النزاع الايراني – العربي – الاسرائيلي والاميركي، اصبح لبنان، رأس حربة في الصراع العربي – الاسرائيلي وفي النزاعات الاقليمية والدولية، بعد ان فشلت الدولة في تطبيق مقولة «النأي بالنفس»، وبعد ان فضل معظم القادة السياسيين السعي وراء مصالحهم الشخصية ومكاسبهم السياسية على حساب الوطن.

يوم الأحد الماضي، رسم سمير جعجع الخطوط العريضة للعمل السياسي الذي ستتبعه القوات والتي من خلالها ستحدّد الصديق من الخصم، وعلى اساسها ستكوّن علاقات جديدة على هذه المعطيات. لقد وضع جعجع مقياسا ً للآخرين للإنضمام الى نهجه السياسي والى كيفية ادارة شؤون الدولة.

بالمقابل وضع حزب الله معايير مناقضة اخرى يسعى من خلال القوة العسكرية الى فرض مناخ سياسي تستفيد منه المقاومة، بعد ان تحول السلاح اداة لخدمة السياسة.

فريق ثالث يسعى الى الاستفادة من سلاح المقاومة لتحجيم القوات وفرض نفسه على الساحة اللبنانية.

الواقع الأكيد ان لا المقاومة ولا حزب التيار قادران على التأثير على مواقف القوات وعلى رؤيتهم السياسية لمستقبل لبنان. لكن غير الواضح لمن ستكون الغلبة، لأن ما يجري على الساحة اللبنانية لم يعد قراراً داخلياً، بعد ان ربط مصير لبنان بالتطورات الاقليمية والدولية.

وقد يستفيق اللبنانيون يوماً على واقع جديد يفاجئ الجميع.

من جهتها، لا تمانع اسرائيل ان يُحكم حزب الله قبضته على لبنان لأن مثل هذه الوضعية تمنع قيام الدولة القوية والموحدة، ويبقى لبنان في  حالة الانقسام الداخلي، خاصة ان لبنان يواجه ملفات شائكة انطلاقاً من مكافحة الفساد والوضع الاقتصادي الذي يشارف على انهيار البلد، وصولاً الى استخراج الغاز من البحر المتوسط الامر الذي لا تحبذه اسرائيل.

كذلك تعتبر اسرائيل ان تدعيم الموقف الايراني في لبنان يدفع دول الخليج العربي الى الارتماء اكثر في احضان الدولة العبرية، كما يمنح اسرائيل حجة اضافية لزيادة التسلّح واكتساب عطف العالم الغربي ودعمه لها لمواجهة «منظمة حزب الله» الارهابية كما يصنفها الغرب.

حيال هذا الواقع، يشكّك البعض بمصداقية رد حزب الله، ويصف ما جرى داخل شمال اسرائيل انه مجرد «مسرحية» اتفق عليها الطرفان مسبقاً.

الثابت ان لبنان ومصيره هما في مهب الريح بعد ان تحول الى حلقة في النزاعات الاقليمية.

فهل يتحول لبنان الى ولاية فقيه اخرى، ام ان ما طرحه قائد القوات اللبنانية قد يتحول الى برنامج عمل لانقاذ الوطن قبل انهياره بالكامل؟؟

pierre@eltelegraph.com