بقلم بيار سمعان

فيما يناقش المجلس التشريعي مشروع قانون الاجهاض في نيو ساوث ويلز، يناقش البرلمان في فيكتوريا مشروع قانون يلزم رجال الدين ابلاغ الشرطة عند الاشتباه في سوء معاملة الاطفال او الاعتداء الجنسي عليهم، حتى ولو ارغم الكهنة على الافشاء بسر الاعتراف. كانت حكومة الاقليم الشمالي قد قررت تطبيق هذا البند من توصيات المفوضية الملكية للتحقيق في الاعتداء على الاطفال منذ منتصف 2018.

وتشمل التوصيات المدّرسين والأطباء والعاملين في القطاع الطبي والموظفين في قطاع االرعاية المبكرة للاطفال. وتطالب ايضاً بإنشاء صندوق وطني للتعويض عن ضحايا الاعتداءات.

النقطة الشديدة الحساسية تتعلق بالزام الكهنة على كسر سر الاعتراف والابلاغ عن اية اعترافات تتعلق بسوء معاملة الاطفال، بموجب قوانين الابلاغ الالزامية المقترحة.

وجاء رد فعل الكنيسة الكاثوليكية على لسان اسقف فيكتوريا، بيتر كومانسولي، انه من الافضل ان يمضي الكاهن ثلاث سنوات في السجن على ان يفشي بسر الاعتراف. وشرح الاسقف ان الكنيسة ليست فوق القانون، ولكن لن نسمح للكهنة بإفشاء سر الاعتراف.

واكدت الكنيسة الكاثوليكية انها ستلتزم بـ 98 ٪ من توصيات المفوضية الملكية للتحقيق بالإساءات الجنسية التي يتعرض لها الاطفال، لكنها لن تتراجع عن سرية الاعتراف، وهي لا تستطيع اجازة ذلك، لأنه من صميم العقيدة، ولا يمكن المساس به، حتى ولو ادى الى تعريض الكهنة لاتهامات جنائية.

  •  سر التوبة والاعتراف

احد الاسرار المعروفة في المسيحية هو سر الاعتراف او التوبة.

يعتبر الاعتراف بنظر المسيحيين نعمة الهية للانسان الخاطئ والتائب الذي يرغب بالعودة الى المصالحة مع الذات ومع الآب السماوي. فالمؤمن يعترف امام الكاهن بالذنوب او الخطايا التي اقترفها، فيقدم له الكاهن الارشاد والمغفرة، بفعل السلطان المعطى له.

وحسب الكنائس المسيحية التقليدية، منح السيد المسيح سلطان الحل والربط لتلاميذه وللمكرسين. وقد قال لبطرس: “اعطيك مفاتيح ملكوت المساوات، فكل ما تربطه على الارض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الارض يكون محلولاً في السماوات – (متى 16:19).

ولم يقل السيد المسيح هذا الكلام لبطرس فقط، بل قاله ايضاً لكل الرسل: “الحق اقول لكم كل ما تربطونه على الارض يكون مربوطاً في السماء” – ( متى 18:18) وقال لهم: “من غفرتم خطاياه تغفر له، من امسكتم خطاياه أُمسكت” – (يوحنا 20:23).

وهكذا اخذت البشارة بعداً جديداً، هو مغفرة الخطايا. لأن كل خطيئة، مهما كانت صغيرة او خفية، هي اهانة لله وللكنيسة، اي جماعة المؤمنين الذين يتقدسوا بقداسة بعضهم البعض. وسر التوبة هو سر الرجوع الى الله، مثل عودة الإبن الضال. فالاسرار المقدسة عامة، حسب المفهوم الكنسي، وسر التوبة بنوع خاص هي وسائل للنعمة والخلاص وتعبير الرحمة الإلهية.

لذا يصف الكتاب المقدس الخطيئة بالعبودية، وان “كل من يعمل الخطيئة، هو عبد للخطيئة”، والعبودية هي بعد عن الله وتكبر على رحمته. فالشيطان، وهو ابو المتكبرين، يحاول ان يقنع البشرية بأنها لا تحتاج الى مساعدة، ويجب بالتالي الا تتوجه الى الله… فلماذا لا يعالج الانسان الخاطئ والضعيف نفسه بنفسه؟ وكأن مريض الجسد لا يطلب مساعدة الاطباء ويتناول الدواء المناسب ويتلقى العلاج الملائم لمرضه.

من هنا، يدعو القديس يعقوب الرسول المؤمنين الى ان “يعترفوا بعضهم لبعض بالزلات” – (يع 5:16) وشرح “بعضكم” هو المريض و”البعض” هم كهنة الكنيسة. كذلك يقول يوحنا الرسول في رسالته الاولى: “ان اعترفنا بخطايانا فهو امين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل اثم” – (يو 1:9).

وبناءً عليه وعلى نصوص عديدة اخرى تحول فعل الاعتراف والندامة الى سر من اسرار الكنيسة، يحظر على الكهنة الافشاء به، مهما كانت الظروف والاسباب، الا في حالات “سلامة الامن القومي” كما اعلن البابا شنودة.

فالتنظيم الكنسي، بالرغم انه يقوم على بشر خاطئين، هو تنظيم ارادة الرب الذي اختار التلاميذ والرسل واقامهم ليسهروا وليرعوا قطيعه… لذا تعتبر الكنيسة  ان سر الاعتراف هو مبدأ ديني راسخ لا يحتمل التعديل او تغيير طبيعته، وفقاً للمتغيرات الاجتماعية او القانونية.

  • تقرير المفوضية وشيوع الاعتداءات الجنسية على الاطفال.

في كانون الاول 2013، عينت الحاكمة العامة لاستراليا، كونتن برايس، ستة مفوضين للتحقيق في ظاهرة الاعتداءات الجنسية على الاطفال والتدقيق في مواقف وردود المؤسسات عليها وكيفية تعاملها معها.

وعلى اثر الكشف انه يتم نقل المعتدين على الاطفال من مكان الى آخر، بدلاً من ملاحقتهم قانونياً والابلاغ عن الجرائم التي يرتكبونها، وبعد ان تبين وجود فشل ذريع في محاولة وقف المزيد من الاعتداءات على الاطفال، حققت المفوضية مطولاً في تاريخ الاساءة في المؤسسات التعليمية والمجموعات الدينية، والمنظمات الرياضية والعديد من مؤسسات الدولة ومنظمات الشباب.. ونشرت تقريراً نهائياً في 15 كانون الاول 2017.

وسعت المفوضية الى خلق  ثقافة اجتماعية جديدة تدعم الكشف عن المعتدين وتحدد هويتهم، واقترحت حلولاً عملية لتحقيق ذلك، كما تراه المفوضية ملائماً، لمكافحة الاعتداءات الجنسية على الاطفال في استراليا، رغم ان هذه الظاهرة ليست حصرية في بلدنا، بل هي عالمية، وتكاد ان تكون مظهراً من الجريمة الدولية المنظمة.

  •  سر الاعتراف في خدمة القانون

اما فيما يتعلق بالكنيسة الكاثوليكية، فقد طالبت المفوضية الملكية للتحقيق في الاعتداءات الجنسية على الاطفال، في البند 26، 16 من توصياتها بما يلي:

ينبغي على الاساقفة الكاثوليك الاستراليين التشاور مع الكرسي  الرسولي، والإعلان على الملأ اي نصيحة تحصل عليها من اجل توضيح:

أ – المعلومات الواردة من الطفل خلال سر الاعتراف انه تم الاعتداء عليه جنسياً، وعدم التستر على هذا الاعتداء بحجة سر الاعتراف.

ب – اذا اقر شخص، خلال الاعتراف، انه اعتدى جنسياً على طفل، لا يمنح “حلة المغفرة” قبل ان يجرى الابلاغ عنه الى السلطات المعنية.

على اثر صدور توصيات المفوضية الملكية، اعلن رئيس اساقفة استراليا الكاثوليك مارك كولريدج خلال مؤتمر صحفي ان الكهنة ليسوا فوق القانون. لكن لا  يمكن للكنيسة ان تسمح  للكهنة بإفشاء سر الاعتراف، حتى ولو ادى ذلك الى احتمال ادانتهم وسجنهم. واكد ان الكنيسة ستلتزم بـ 98٪ من التوصيات، لكنها لن تتراجع عن خصوصية سر الاعتراف.

ولا تمانع الكنيسة التعاون مع القوي الامنية لمعالجة ظاهرة الاعتداءات الجنسية على الاطفال ومؤازرتها على ملاحقة المعتدين، لكن خارج نطاق “كرسي الاعتراف”، اي خلال ساعات الارشاد وابان قيام الضحية بطلب مساعدة الكاهن لمعالجة هذه المشكلة.

ويقول احد الكهنة الموارنة، انه في حال اعترف طفل انه يتعرض للاعتداء عليه، يشجعه على لقائه خارج كرسي الاعتراف، لمناقشة حقيقة ما يجري معه. فيصبح الكاهن في هذه الحالة محرراً من قيود سر الاعتراف. في مثل هذه الحالات يسهل على الكهنة ابلاغ الشرطة، لتتسلم زمام التحقيق في هذه الشكوى.  وهذا ينطبق على معظم الحالات التي يطلب فيها الفرد او العائلة مؤازرة الكاهن لمعالجة قضايا الاعتداء على الاطفال.

لكن الاسقف مارك كولريدج يقارن بين المطالبة بإفشاء سر الاعتراف والسرية الاعلامية وعدم الافصاح عن المصادر التي تزود الاعلاميين بمعلومات محظورة. وتساءل الاسقف كيف يمكن لكاهن ابلاغ الشرطة عن شخص لا يعرفه ويجهل اسمه ومكان اقامته. قد اعترف بإساءة معاملة طفل لم يتعرف عليه ويجهل هويته. وهو بالتالي غير قادر على التحقق من صحة المعلومات التي يسمعها في كرسي الاعتراف، على عكس المخبرين الذين ينقلون معلومات سرية لصحفيين، وهم موضع معرفة وثقة متبادلة.

وما يجرى اليوم في استراليا من تحقيقات هامشية مع الشرطة الفيدرالية الاسترالية التي داهمت مكاتب شبكة الـ ABC في سدني على خلفية تسريب معلومات سرية تسيء الى القوات الاسترالية والى الأمن القومي، بحجة حماية الحرية الاعلامية. فلماذا ترغب استراليا حماية الاعلام والصحافة وتسعى الى اباحة سر الاعتراف؟

فالكنيسة لا تتهرب من القيام بواجباتها ولعب دورها لحماية الاطفال، لكنها لن تتهاود حيال مساعي تحويل كرسي الاعتراف الى مكتب مباحث في خدمة المؤسسات الامنية.

فماذا ترغب الدولة العلمانية في تحقيقه من خلال دخول كرسي الاعتراف وتحويلها الى منصة تجسّس على اسرار المؤمنين؟ وهل تريد تحويل “سر الرحمة الإلهية” الى سر النقمة الاجتماعية، وابعاد المومنين نهائياً عن الكنيسة الوفية لقوانين الدولة على حساب الالتزام بالوصايا الإلهية؟؟

  •  الإلحاد في مواجهة الإيمان.

في ايار/مايو 1919، عثرت قوات الحلفاء في مدينة دوسلدورف الالمانية على نسخة “لقواعد الثورة الشيوعية” تم طباعتها للمرة الاولى في الولايات المتحدة في صحيفة Examiner – Enterprise في ولاية اوكلاهوما في العام نفسه. ثم اعيد طباعتها وترجمتها الى اكثر من لغة.

وتتضمن الوثيقة القواعد والأهداف التالية:

1 – افساد الشباب، ابعادهم عن الدين والهائهم بالجنس، وجعلهم سطحيين وفاقدي المناعة (الشخصية) .

2 – التحكم بوسائل الاعلام

3 – إلهاء عقول الناس عن قضايا الحكم وتركيز اهتمامهم بالرياضة وكتب الجنس وغيرها من التفاهات.

4 – تقسيم الناس الى مجموعات معادية عن طريق افتعال القضايا المثيرة للجدل والتي لا قيمة لها.

5 – تدمير ثقة الناس بقادتهم “الطبيعيين” عن طريق الترويج لمشاعر الازدراء والسخرية والتسلية (بقضاياهم).

6 – التبشير بالديمقراطية الحقيقية، (على ان يقابل ذلك)  الاستيلاء على السلطة بأسرع وقت ممكن وبلا رحمة.

7 – تشجيع البذخ (والانفاق) الحكومي، وتدمير مشاعر الانتماء، وتشجيع الخوف من التضخم مع ارتفاع الاسعار، وخلق حالة من السخط العام.

8 – اثارة الاضطرابات غير الضرورية في الصناعات الحيوية، وتشجيع الاضطرابات والعصيان المدني، وتشجيع الحكومات على اتخاذ مواقف متساهلة تجاه هذه الاضطرابات.

9 – اللجوء الى الحجج الخادعة للتسبّب بانهيار الفضائل الاخلاقية التقليدية، والصدق، والاعراف الاجتماعية، والايمان بالكلمة الموعودة.

10 – العمل على تسجيل جميع الاسلحة النارية لحجة ما، لمصادرتها وترك الناس بدون قوة او قدرة على الدفاع عن النفس.

صحيح انه جرى تعطيل الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، لكن يجري العمل على تحقيق هذه المبادئ الملحدة في جميع الدول حول العالم.

واذا اعدنا قراءة هذه المبادئ على ضوء ما يجري من تحولات واحداث في العالم، يصعب على اي شخص ان يصدق ان الفكر الشيوعي الملحد ليس له اي دور في الفوضى التي تضرب العالم اليوم.

أهي مجرّد صدفة كبيرة، ام ان العالم يسير ضمن خطة جرى اعدادها بدقة للإطاحة بالأنظمة التقليدية المستقلة واقامة نظام جديد يطيح بكل الاديان والدساتير والمفاهيم الاخلاقية.

وما سيكون مصير المؤمنين اذا تحولت كرسي الاعتراف الى صندوق تجسّس على اسرارهم الحياتية؟

pierre@eltelegraph.com