بقلم فاطمة حسين
الساعة الثانية بعد منتصف الليل وصديقي سرقَ نومي لينعمَ هو ببعض السلام…لا يملُّ الحديث… ذلك الحديثُ الطويلُ الذي لاينتهي…لهفتهُ تحجب عنهُ الذاكرة لينسى انهُ يُعيد علي ماقالهُ لي بالأمس. صديقي حالةٌ استثنائية جداً فقد بدأت مُعاناتهُ التي صدرها إليَّ منذ الشهر الأول الذي غادرَ فيه دمشق إلى حين وصولهُ لشتوت جارت الألمانية وبعدَ إقامتهُ فيها على انه لاجئ حرب وهو كل يوم يُعيد علي كلمتهُ الشهيرة(أنا الدمشقي)يرددها ليؤكد لي انه ليس لاجئاً ولا يحمل الجنسية الألمانية هو دمشقي بأمتياز رغم آلاف الكيلومترات التي تفصله عني وعن البلد الذي ينتسبُ إليها بذاكرته وكنت اضحك سراً من اعتقادهُ هذا…مما دعاني أشعرُ أنه معي حقاً… هو الذي لم يكن يغادر البيت تعلقاً…ولم يكن يغادر الحي عشقاً…كيف له أن يغادر البلاد… لم أكن أقنعه بالبقاء أو الرحيل لكن اختلاف ظرفينا حسم الأمر…إنه يراسلني كل يوم على مواقع التواصل الاجتماعي…يراقبني كأنه يراقب وطناً بأكمله… يسألني اين انت
اجيب:في السرفيس يرد عليّ..نيالك.اضحك بضيق وأتمتم(على شو يازلمة))
يُعاود الاسئلة
-مابرنامجك اليوم؟! أرد عليه ببساطة لا شي مهم… اعود من العمل..أنام قليلاً..اذهب مساءً إلى
المقهى… أسهر مع الشباب أصحابنا…
يقول:نيالك بتنهد سألني مرةً ماذا تفعل الآن اجبتُ:أسقي(لزريعة)التي تركتها عبئاً علي… ارسل لي وجهاً باكياً فشعرتُ حينها أن هذا الوجه الباكي وجههُ حقاً…وتلك الدموع قد سقطت فعلاً…لقد تضخمت مشاعره هذه،في الآونة الاخيرة كثيراً مما جعلني اخشى عليه من نفسه…وكنتُ أردد في نفسي قولاً معروفاً أن الليل يضخم أحزان الغرباء…وانها حالة من التفريغ سوف ينسى ويتحسن،لكنه فاجأني وأخبرني انهُ يفكرُ بالعودة اليوم فتحتُ الحاسوب خاصتي وجدتُ رسائل كثيرة منه بعد أنقطاع دام أيام يقول صديقي..صباح الياسمين ياصديقي الغارق بالياسمين سألتُ نفسي دائماً..لماذا نحنُ مختلفون جداً؟ هناك بشرٌ ينبتون كالسرخسِ في الهواء لا يحتاجون إلى الجذور…لماذا نحنُ منذ ولادتنا يجذّرونَ أوردتنا بجذور الأشجار..فمنذُ الأسبوع الأول من الولادة يدفنونَ بقايا حبلنا السرّي بتراب هذه الأرض حيث ننفصل عن أمهاتنا..ويبدأ.. الارتباط بالحبل السري الأخر.. ونتحد من دون أن نشعر بذرات التراب ٍ..فتضمن هذه الأرض ان ابناءها مهما جارت عليهم باحكامها وفرضت عليهم كل ماتبغى لن يخرجوا عن طاعتها وإن تمردوا سوف يعودوا راكعين بخشوع أمامها لتمنحهم بركتها ورضاها.. أرأيت ياصديقي الذي لايكف عن اللوم، هاهي دمشق تضحك ..وتستقبل الشمس بدوني ،هذه العاشقة الخائنة ،تفرد شعرها شلال سحر ٍللعابرين ..وقد نسيت ذلك المولع الذي افنى سنوات من عمره وهويمشط شعرها الطويل ،وساهراً يحرس جسدها الممتد من الجرح الى الجرح ومن الوريد إلى الوريد،..كيف أستطاعت ان تُبعدني عنها ..أنها امٌ جافية ..ابناؤها ناموا على الأرصفة الباردة وفي الطرقات تشظوا كأجزاء البلور،المتناثر..ولم تأبه…
موجوع ياصديقي حد البكاء.. الى من تركتني حين خرجتُ منها ذات خوف،..لم تمنعني بل دفعت بي كي ابتعد وأضيع في تلك الدروب وأمشي راحلاًعنها وروحي تلتفت إليها… نزعت قلبي ذات غياب وزرعتهُ شجرة حزنٍ في أرضها البعيدة ..تركت ورائي بيتي..وصورطفولتي ومرقد أمي،وأبي وقبور أجدادي فيها..تركتُ أحلامي أطفالاً يتامى بلا مأوى.. ثلاثة أعوام ياصديقي .. كلما دغدغ الفجرُ أجفاني يستقيقظ جسدي أشعر أنني مازلت في بيتي ويتراءى لي أنني أسمع أصوات الباعة في السوق المجاور للحي ،فتصحو ذاكرتي أسمع الهتافات في الأزقة ،ووجوه أصدقائي المشبوهين ..والجيش ..وأصوات المدافع ،ورحيلي وتغريبتي التي بدأت فيها وأنتهت عندها، أفتح نافذتي بحثاًعنها..لاشيئ يشبهها ..ليس هواء دمشق ولاياسمين دمشق ولا صوت الحمائم على المآذن ..انها بلاد الأسمنت والبرود فأشعر بالثلوج تتساقط في أعالي روحي ،وتدخل الوحشةعّلي تنفيني من ذاتي .. فيمر النهار مجدولاًبالفراغ والضجر…ويأتي الليل يحمل على جناحيه الذكريات،سأعود ياصديقي !!!! لم أعد أحتمل الفراق ،واجزائي مبعثرة في شوارعها وبعضٍ مني يقيم الى الان في أحيائها ويرتاد مقاهيها… كتبتُ بعد صمت :صديقي !!!أنا اشعر بك جيداً..ولكن الأمر ليس سهلاً كما تظن انت ،ان عودتك الآن ليست الحل الأفضل لك.. قاطعني ،سأعود (صمتُ أنا)وأردف قائلاً:أنا الغريب ..الجريح المنفي ،انا اللاجئ الى دول الصمت ،الخارج من صميم المأساة ،سوف أعود ..لقد ضعت كالعصفور..سنوات تحت المطر ،أبتل قلبي وأغتسلت من غبار الخوف..وامتلأت بالوحدة والأنفراد.. صديقي أبكاني ،لم أشعر يوما بقيمة وجودي على هذه الأرض ولم أهتم بأنني أصحو على توقيت دمشق،وانها نجمة مضيئة على كتف قاسيون،ولم يعنيني أبداً أنني أغتسل كل يوم بنهارات دمشق ،هو من رسم لي خريطة ًللعشق ودلنّي كي أكون معه أحد مردائها .. هي القديسة الأغلى (هي الشام) لقد عاد صديقي … كل المطارات تعرف صديقي دمشقّي الملامح عذب اللهجة وكل المطارات رحبت بلهفته وقرأت عيونه قبل ان تقرأ جواز سفره.. هاهي الطائرة التي تسري في جسد الغيم تحمله معها لتقذف به من رحم الغربة ليولد مرة أخرى على أرضه،هبط صديقي ..وهبطت معه ذكرياته وقوافل الأشواق وحقائب الأحزان .. عينيه غيمتان تمطران بسخاء.. تنفس هواء الشام فتفتح الياسمين في رئتيه .. أمتشق روحه من جديد ومشى نحو دمشق مردداً في سره
.. شممتُ تربتك لا زلفى ولا ملقا وسرت قصدك لاخباً ولا مذِقا وماوجدت الى لقياكِ منعطفاً الا إليكِ، ولا ألفيتُ مفترقا شعر أن الجواهري يسير معه في هذه اللحظة
..!!! ففاضت عيناه،لكن دمشق لم تتعرف على ملامحه الدمشقية ولم تعنيها لهجتهُ ولم تأبه بدمشقيتهِ الجلية ،فحين وصل سحبو أوراقه،وأمطروه بوابل من الاسئلة ولم يمنحوه فرصة تقبيل تراب الأرض كما وعد ..ولم يمرغ قلبه على ثراه كما تمنى ،بل أقتادوه معهم .. الى مجهول.. وربما الى تغريبة أخرى.