العميد المتقاعد وجيه رافع


من يتابع العملية السياسية في لبنان ويراقب دقائقها عن كثب، يشعر بانغلاق الافق فيها، مخاض عسير قائم ومستمر ترافقه صعوبات جمّة تقضي فيها الطوائف اللبنانية وقتاً طويلاً للبحث عن توازن دقيق فيما بينها، توازن ظاهره اخلاقي بريئ، اما باطنه المضمر فهو عبارة عن صراع مستمر بين الطوائف للامساك بالسلطة من كافة جوانبها، وصولاً الى التنافس اللامتناهي على مسألة أساسية وهي: من  يحكم لبنان؟!.
لا أحد من الطبقة السياسية يبحث عميقاً عن الطريق، طريق النجاة، اوعن الضوء، ضوء الخلاص، أجادت هذه السلطة ومن سبقها في ممارسة فن استثمار الخصوصيات بين الطوائف وكذلك فن تراكمها، وأجادت أيضاً في طمس المشترك الكثير بينها، أضحت السياسة عندنا عبارة عن ضجيج هائل يكثر معه الكلام والصراخ، وتختفي فيه الحوكمة والآليات والتخطيط وغياب البنيان المؤسساتي.
هناك غياب تام للعقل في كافة مراحل العملية السياسية، والغرائز سيدة المواقف في كل استحقاق كبيرا كان ام عاديا، كل ذلك يجري في ظل نظام حزبي تتقاسمه الأحزاب العائلية التي تتوارثه حالياً اجيال شابة شبّت على الغوص في المستحيل، وفي ظل تغييب كامل للأطر الفكرية والعقلانية للخروج من أزمات لبنان المعقدة والمستعصية.
كالعادة، تظهر الطائفية السياسية في البلاد عروساً لكل الأزمات، هي ليست جديدة طبعاً، هي قديمة قِدَم التاريخ، جذورها ضاربة في عمقه حتى النخاع، وبالرغم من كل الأزمات والحروب والسقوط واحتمالات الانهيار على مدى تاريخ لبنان السياسي، تقف الطائفية السياسية عالية عاتية متكبرة، لا تنحني ولا تستكين، وكل تلك الثورات العلمية والرقمية والتقنية في العالم، وكل هذا التطور الهائل في الفكر الإنساني، وقفت جميعها عاجزة عن فك لغزها وكشف اسوارها وأسرارها ،وما زال الشعب العنيد مصراً على تعظيم الشعور الطائفي، بينما الشعور الوطني في ضمور مستمر، واضحى مع الأسف فولكلوراً يعبر عن لا وعي مجتمعي وعن فقدان خطير للإدراك الإنساني.
الصراع داخل الطوائف لا يقل شأناً عن هذيان الصراع بين الطوائف، وتستخدم فيه أيضاً كافة الأسلحة من نعوت وأوصاف  تدميرية، انه صراع النفوذ داخل الطائفة الواحدة، كل فريق يقدم نفسه انه الاكثر حرصا على واقع الطائفة وحضورها ومستقبلها، ويتوقف أيضاً  على نتائج هذا الصراع العلاقة مع باقي الطوائف، في تعارضها او تخبطها او انسجامها وبالتالي على مجمل العملية السياسية في البلاد.

تظهر السياسة في لبنان، تماماً كحلبة مصارعة، يتقاتل فيها مجموعة من المتصارعين داخل الطائفة الواحدة، ويتقاتل الرابح فيها مع الرابح من الطائفة الأخرى، وسط تصفيق حار للشعب العنيد، تنتهي المصارعات وتظهر النتائج، يفرح المنتصرون ولا يحزن المهزومون، فهم في الأصل شركاء على تتابع السنين، وحدها الحلبة تخرج محطمة، مرهقة، حزينة حتى الاكتئاب، الحلبة نفسها هنا هي الوطن الجريح الذي اسمه لبنان.

في تدرّج سريع للعملية السياسية في لبنان، على مدى خمسة عشر سنة خلت، يمكننا ملاحظة المسارات السياسية الاتية:

– تفاهم، اصبح واضحا للجميع، هو مذكرة بين قطبين، لكل منهما مصالحه واهدافه، احدهم يبحث عن غطاء والآخر يبحث في كمّ التناقضات الطائفية والمذهبية وارتباطاتها الاقليمية، علّه يجد مكانا يجلس اليه وقد وجد.

– اعلان، اسمه بعبدا، يتألف من سبعة عشر بندا، ستة عشر منهم ديكورا انشائيا درجت السلطات المتعاقبة على تردادها واصبحت معزوفة مملة، لا وضوح فيها ولا خارطة طريق، لم يعلق منها في الذهن السياسي الا “بندا ذهبيا” وحيدا، النأي بالنفس، هذا المصطلح الجديد المضاف الى ابداعات الفكر السياسي القائم في لبنان، وهذا الاعلان لفظته الواقعية السياسية وجيوبوليتيك الطوائف في الاقليم قبل ان يجف حبر الاعلان.

– المصالحة، فهي داخل الطائفة الواحدة، زيّنت اسبابها العواطف والانفعالات والاخلاقيات، وسرعان ما تبددت نتائجها فور انتفاء اسبابها، لانها في الاصل قامت على وقع ارهاصات الطموحات الرئاسية المشتركة بين المتصالحين، بعدما ارهقت مذكرة التفاهم كرسي الرئاسة، وأرخت بظلالها عليه فارغة لفترة طويلة.

– تفاهم واعلان ومصالحة لم يملأوا كرسي الرئاسة، فكان لا بد من ايجاد تسوية تملأه وقد وجدت.

في النتائج الاجمالية بعد ثلاثة سنوات على التسوية يمكن ملاحظة الانفعالات السياسية التالية:

– توتر سياسي غير مسبوق ومستمر  بين الطوائف وداخل كل طائفة.

– توتر بين “المارونية السياسية” و “السنية السياسية” على وقع الصلاحيات والتاريخ، يرافقها اتهامات متبادلة وصلوا معها الى مفهوم جديد جوهره “استعادة الصلاحيات المنهوبة”، وهي المنهوبة اصلا من الجميع، منهوبة من عزة وكرامة وانسانية الشعب اللبناني مجتمعا.

على وقع هذه التوترات، دب الفرح والسرور في قلب احد افرقاء المصالحة، تلك المصالحة التي انتهت لحظة الجلوس على المقعد الذهبي. وتستمر فصول المسرحية اللبنانية، حيث ظهر على المقلب الآخر احد الزعماء الرئيسيين في البلاد خائفا متوترا وقلقا، وشنّ هجومه على طرفي التسوية، وعاد به الحنين الى الميثاقية التي صرف وقتا طويلا من حياته السياسية يحاربها، والان يتهم الجميع بمحاولة تطويقه وعزله، ويستشعر خطرا يستهدفه، متحصنا داخل كرسيه الافتراضي مطلقا سهامه “التويترية” باتجاه الجميع، وكل ذلك يجري على وقع توترات متنقلة في منطقة الجبل.

لقد تم ترميم التسوية ترميما جزئيا، وعاد الهدوء يسيطر على جبهات بعض الطوائف، بانتظار ما ستحمله الايام القادمة من احداث جديدة، لان الشعب العنيد يتفاعل بشغف مع الحدث السياسي ذو البعد الطائفي، اما المؤتمرات الصحفية والاعلامية التي تفضح الفساد المسيطر على المؤسسات بالاضافة الى خطر التلوث المسرطن الذي ينتشر في ارجاء لبنان على وقع انتشار ازماته السياسية، هي مسائل غير موجودة في حساباته الغريزية.

لذلك، نجد هذا الشعب العنيد يُستثار في قضية لم يحن اوانها بعد، وهي الاستحقاق الرئاسي الذي فتح على مصراعيه منذ جلوس الرئيس القوي على كرسيه الرئاسي، وهو صاحب شعار الاصلاح والتغيير، شعار مؤلف من كلمتين، كل كلمة منه تحتاج الى عهد كامل، فولاية واحدة قد تصنع اصلاحا لكنها لا تصنع تغييرا، وهو بحاجة الى عهدين لينال الاصلاح والتغيير، والبديل بنظره جاهز لاستكمال تنفيذ الشعار، فمتى يُستثار هذا الشعب العنيد لكرامته الانسانية ويقرر لمرة أخيرة ان يقلع عن التصرف كقطيع؟!